الثلاثاء، 3 سبتمبر 2013

كرسي متحرك في مدرسة حكومية!

جدة: عمر المضواحي

 

وقعت أحداث هذه القصة في بداية العام الدراسي 1432هـ في مدينة جدة. وهي تعكس وضع الطلاب المعاقين جسديا في المدارس الحكومية في المملكة، الذين يعانون في صمت بين سندان إهمال وازرة التربية والتعليم ومطرقة أولياء أمور يتهربون من تحمل مسؤلية أبنائهم وإحتياجاتهم الخاصة.

أستعدت أحداث هذه القصة من الذاكرة ومسودات أوراقي الصحافية، إبان إدارتي آنذاك مسئولية المركز الإقليمي لصحيفة "الوطن" في جدة، بعد أن قرأت تغريدة صباح أمس للدكتور هيثم طيّب في حسابه المثير للجدل @Haytham_T على جناح الطائر الأزرق #تويتر.

التغريدة عبرت عن سخط الدكتور طيّب من محتوى تقرير صحافي نشرته صحيفة #عكاظ في عدد يوم أمس "الإثنين 2 سبتمبر 2013م" ورد فيه تملصّ إدارة التربية والتعليم عن أي مسئولية ربما تنتج أي إصابات أو وفيات بين طلاب الإحتياجات الخاصة في مشروع الوزارة دمج طلاب الإحتياجات الخاصة في الفصول الدراسية مع الطلاب الأصحاء. ومطالبتها أولياء أمور الطلاب بتوقيع إقرارات خطيّة تخلي مسؤلية إدارة التعليم عن أي حادثة تقع جراء دمج أبنائهم في المدارس التابعة للمنطقة التعليمية. http://www.okaz.com.sa/new/Issues/20130902/Con20130902633770.htm.

هذه القصة التي حدثت وقائعها قبل سنتين ونصف تقريبا، كنت أعدّها لتحقيق صحافي لـ "الوطن". للأسف لم تنشر بسبب فشلي الذريع في إكتمال أركانها ومعايير نشرها في شكل مهني مكتمل.

البداية كانت من خبر صغير نشر يومها في عدد من الصحف من بينها صحيفة عكاظ، مفاده قيام إدارة تعليم منطقة مكة المكرمة بالتحقيق مع خمسة مدراء مدارس من مراحل تعليمية مختلفة في مدينة جدة إثر دعاوى تقدم بها عدد من أولياء الأمور يزعمون فيها أن المدارس تفرض عليهم تقديم تبرعات مالية للمدارس التي يدرس فيها أبنائهم.

وأشير في تفاصيل الخبر، إحالة أمارة منطقة مكة المكرمة ملف الدعاوى المقدمة إليها الى إدارة تعليم منطقة مكة لإستكمال التحقيقات إثر تلقيها عدة مخاطبات من مواطنين بشأنها، مع شرح لمسؤل بارز في الأمارة يفيد الى أنها خطابات " بنيت على شكاوى سماعية وليس لها إثباتات أو أدلة ثبوتية، ما يستدعى التثبت من القضية برمتها" من خلال الإدارة المختصة في إدارة تعليم المنطقة.

ألتقطت طرف الموضوع، محاولا الوصول الى إحدى المدارس الخمسة محل الشكوى، وبعد عدد من الإتصالات والبحث، تمكنت من الحصول على تفاصيل مثيرة، إضافة الى إسم أحد المدراء الخمسة المحالين الى التحقيق الإداري.

كالعادة، أصطدم التحقيق الصحافي بجدار صلد من التحفظ والممانعة في الكشف عن المزيد من خفايا القصة الخبرية. فقد رفض مدير المدرسة، ومسئولي إدارة التعليم، الخوض في أي تفاصيل إضافية عن القضية خشية المسائلة كونهم غير مخولين رسميا للحديث مع وسائل الإعلام!.

بعد محاولات، حصلت على معلومات موثقة من إحدى المدارس الحكومية التي طال مديرها التحقيق الإداري بتهمة إجبار ولي أمر طالب معاق بتقديم تبرعات مالية للمدرسة نظير قبول إبنه فيها!.

خلصت المعلومات الى التالي:

تقدم والد طالب من ذوي الحاجات الخاصة بطلب إلحاق إبنه (عبدالرحمن) في مدرسة نموذجية للمرحلة الإبتدائية. وطلب من مدير المدرسة الحاق إبنه فيها نظرا الى قربها من بيته، ولما لها من سمعة جيدة كونها أحدى المدارس الرائدة والمطورة في مدينة جدة.

ولكون المدرسة (حكومية) غير مصممة لإستقبال الطلاب المعاقين حركيا، تم إفادة ولي أمر الطالب عبدالرحمن أن المدرسة لا تتوافر على التجهيزات المطلوبة للتعامل مع حالة إبنه المعاق حركيا.

فلا تتوفر بها ممرات خاصة بالكراسي المتحركة، أو مصاعد كهربائية، أو دورات مياة مجهزة للمعاقين حركيا، وغير ذلك من التجهيزات الضرورية، الأمر الذي يصعب من قبول هذه الفئة في المدرسة.

وأمام إسترحام والد عبدالرحمن وإصراره على تسجيل إبنه، وتعذره بأنه مواطن بسيط مستور الحال، وأنه أسقط في يده من كثر رفضّ عدد من المدارس طلبات إلحاق إبنه فيها، وأنه أمام عجزه وقلة حيلته سيرفع شكواه الى الله، وأنه يحمل وضع إبنه المعاق في ذمة المسئولين في إدارة التربية والتعليم وإدارة المدرسة.

حاول مدير المدرسة أن يخفف على والد عبدالرحمن، وشاركه الشعور بمعاناته كأب لطفل معاق، بالقدر الذي يشعر فيه بالمسؤلية على أن يتلقى إبنه حقه الطبيعي في التعليم. مؤكدا له أن قرار قبول إبنه ليس بيده وحده، وأنه لابد وأن يكون للمعلمين رأي في قبوله، نظرا للأعباء الإضافية التي ستطالهم حال قبول إبنه في المدرسة.

 وطلب منه تسليم ملف إبنه، ومراجعته بعد أسبوع للتفكير والمشاورة، ودراسة إمكانية ذلك، مع وعد بمساعدته قدر المستطاع.

قام مدير المدرسة بشرح ملابسات ملف الطالب عبدالرحمن، وعقد إجتماعا مع هيئة التدريس في المدرسة التي تتكون من ثلاثة طوابق، يشغر أعلاها طلاب المرحلة الأولى.

بالفعل وافق المعلمون على تحمل المسؤلية، وتعاملوا مع الموقف بإنسانية وابدوا إمكانية المساعدة والمشاركة بالدعم المادي إن أحتاج الأمر تعاطفا مع طلب مديرهم الذي أبدى حرصه على قبول الطالب في المدرسة.

خلص الإجتماع الى عدة نتائج منها:

·        إحداث فصل دراسي جديد في الدور الأرضي، وتهيئته بما يحتاج إليه من مستلزمات تعليمية من كراسي وطاولات وأجهزة تكييف وسبورة تعليمية وغيرها من الوسائل التي تتوافق مع ظروف الطالب الجديد.

·        العمل على تخصيص إحدى دورات المياه الخاصة بالمعلمين في الدور الأرضي و تهيئته بكافة المستلزمات لتلبية إحتياجات الطالب المعاق.

·        إنشاء مزلاج خاص بالكراسي المتحركة في مدخل الباب الرئيسي الى المدرسة لتسهيل وصول الطالب الى الفصل وخروجه، وآخر في المخرج المؤدي الى فناء المدرسة تتيح مشاركة الطالب في حصص الرياضة البدنية وقضاء الفسحة المدرسية مع زملائه.

·        تهيئة أي جزء آخر في المدرسة يمكن الطالب من الإستفادة من المؤسسة التعليمية بالشكل الأمثل.

بعد أسبوع حضر الأب مع إبنه، وتم وضعه في الصورة العامة للموضوع وإفادته بموقف المدرسة والمدرسين واستعدادهم للقبول بإبنه والمساهمة ماليا بقدر المستطاع في تذليل عملية قبوله.

وطلب منه بيان مدى استعداده للمشاركة في تسهيل قبول إبنه في المدرسة، والمساهمة في إنشاء جسر حديدي متحرك يتم استخدامه لابنه فقط والمساهمة في تجهيز دورة المياه بالشكل الذي يلبي إحتياجاته.

وأبدى ولي الأمر موافقته الكاملة على تقديم الدعم المطلوب لقبول إبنه، وإستعداده توفير جسر حديدي متحرك على السلم الخارجي للمدرسة. لكنه إعتذر من المدير بعدم الحاجة الى تجهيز دورة المياة مفيدا بالقول " لا عليك، لن يحتاج إبني لدورة مياة، وأعدكم بأنه سيحضر وهو مضبط نفسه، الى حين عودته للمنزل!" شاكرا إدارة المدرسة وسخاء المعلمين على موقفهم الشهم والنبيل، ومساعدته في قبول إبنه في المدرسة.

خلال أيام قامت المدرسة باستحداث الفصل الدراسي لإستقبال الطالب الجديد عبدالرحمن. وفي كل صباح شهدت المدرسة صورا تربوية رائعة عندما يتبادر الطلاب والمدرسون في إستقبال زميلهم الجديد، ويحملونه وكرسيه المتحرك معا لتجاوز السلم الأرضي، في الدخول والخروج والفسح الصباحية اليومية.

شعر الجميع أن البركة والرضا النفسي تحقق في المدرسة، وأن روحا تعاونية سادت أجواء المدرسة ودائما وأبدا يكون الطالب "عبدالرحمن" هو بطلها ومحورها الرئيس. كان حضوره واحدا من أكثر الصور الإيجابية التي انعكست على طلاب المدرسة منذ إنشائها.

بعد مرور ثلاثة أشهر، لم يظهر ولي الأمر الطالب عبدالرحمن ولو لمرة واحدة، أنتظر المدير والمدرسون وفاءه بما وعد، وأنتظر إبنه عبالرحمن الجسر الحديدي لكنه لم يحصل عليه!.

في نهاية العام الدراسي، قام والد الطالب عبدالرحمن، بتقديم بشكوى كيدية الى أمارة المنطقة يتهم فيها المدير وهيئة المدرسة بانهم إستغلوا وضع إبنه المعاق، وأنهم طالبوه بتقديم أموال لتنفيذ مشاريع لمدرسة حكومية مدعيا بأنه "ليس أغنى من الحكومة" وأنها مسؤلة على تهيئة كل الظروف المناسبة لحالة إبنه المواطن.

في بداية العام الدراسي الجديد أرسلت إدارة التربية والتعليم في المنطقة فريقا من ادارة المتابعة الإدارية للتحقيق مع المدير وهيئة التدريس عن شكوى ولي أمر الطالب عبدالرحمن، والتحقق من المبالغ المالية التي استلمها المدير منه مقابل قبول إبنه المعاق في المدرسة!.

يومها لم ينشر التحقيق في "الوطن" ... وكانت الحجة دوما.. أن التحقيق الإداري في الشكوى لا زال جاريا!.

هناك تعليق واحد:

شاكر ومقدر مروركم وتعليقكم