السبت، 28 مارس 2015

حفيد أمير الحديبية يضع النقاط على الحروف: هذه قصة بناء وهدم وإزالة موقع مسجد شجرة بيعة الرضوان! ( 6 ـ 6 )

صورة نادرة لمسجد بيعة شجرة الرضوان في الحديبية. (مصدر: الإنترنت)



مكة المكرمة: عمر المضواحي

لم يشهد مكان في مكة قط جدلا وخلافا فقهيا يفوق ما شهده تحديد المناخ النبوي في منطقة وادي الحديبية. وخلال العقود الخمسة الماضية كان العلماء والفقهاء مختلفين بشكل حاد حول صحة تحديد الأمكنة النبوية في مناخه صلى الله عليه وسلم في الحديبية، بين منكر لموقع مسجد قديم كان يعرف بمسجد الشجرة التي بايع أصحاب النبي محمد صلى الله عليه وسلم تحتها بيعة الرضوان، ونفي الصفة النبوية للبئر الحالية، وتحديد مكان عقد النبي صلى الله عليه وسلم لصلحه الشهير مع مشركي قريش في السنة السادسة للهجرة.

كانت الآراء على طرفي نقيض، وقودها مرويات متباينة من كتب الحديث والسير والمناسك، وكل طرف متمسك بسيف أدلته القاطعة، بعيدا عن إدخال أصحاب الاختصاص من علماء الآثار والتاريخ والجغرافيا لتقريب وجهات النظر بأسلوب علمي وعملي على أرض الواقع.

في العام 1399هـ حسم الامر، وتم تجاهل حقيقة المسجد القائم الذي يغلب على رأي الطرف الآخر أنه تم إنشائه منذ قرون مضت حسب مرويات كتب التاريخ وشهادات سكان المنطقة. وتم هدم المسجد وتسويته بالأرض، قبل أن ينجح الفريق الآخر بعد جهود مضنية في إعادة بناء المسجد من جديد في موقعه التاريخي.

غير أن أصحاب الفريق الأول، لم يركنوا للواقع واجتهدوا في تنفيذ مرادهم مرة ثانية، حتى  تمكنوا من الحصول على أمر جديد يقضي بإزالة المباني الجديدة للمسجد، وقبل أن تؤدى فيه صلاة واحدة. وتم طمس كل أثر ظاهر له في موقعه.

في وقت لاحق تم بناء مسجد (الشميسي) القائم حاليا على ناصية طريق جدة مكة القديم، ليكون مسجدا بمسجد سدا للذرائع، وحسما للجدل، ليسدل الستار على تلك القصة طوال العقود الماضية وفي شكل نهائي!.

في الحلقة الاخيرة من هذا التحقيق الموسع، رافقنا في جولة ميدانية اخيرة كلا من الشيخ عثمان بن نصير البركاتي الشريف، وابن عمه الشيخ محمد بن شرف البركاتي الشريف وهما أحفاد الشريف عبدالله بن ناصر البركاتي الذي كان أميرا على منطقة الشميسي (الحديبية) في نهاية عهد الأشراف، وفي بداية عهد الدولة السعودية الثالثة بعد دخول الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود ـ رحمه الله ـ الى مكة المكرمة.

شاهد عيان

الشريف عثمان بن نصير البركاتي حفيد امير الحديبية السابق.

لم يتردد الشريف عثمان بن نصير البركاتي (75 عاما) في وضع النقاط على حروف كل الأسئلة الغائبة عن أهم مواقع المناخ النبوي في الحديبية التي درج على مرابعها وعاصر كل تحولاتها، وشهد كامل التغييرات التي حدثت فيها خلال العقود السبعة الماضية من عمره المديد.

وكشف خلال جولة ميدانية في الحديبية رافقه فيها ابن عمه الشريف محمد بن شرف البركاتي (65 عاما) لأعضاء مبادرة معاد لتعزيز الهوية المكية جميع تفاصيل القصة والظروف التي واكبت تلك المرحلة التاريخية التي شهدت خلافا محموما حول مسجد الشجرة انتهت بإزالته وطمسّ كل أثر له منذ ذلك اللحين وحتى الآن.

الشريف شرف بن محمد البركاتي يستمع لنقاش الشريف عثمان
الشريف عثمان حسم كلّ الشكوك بتعيينه موقع مسجد الشجرة (بيعة الرضوان) الذي أزيل في أواخر العقد التاسع من القرن الهجري الماضي. وقال: إن مسجد "الشجرة" كان بناء صغيرا يقع بين السور الشمالي السابق للمقبرة وبين البئر تفصلهما مسافة غير بعيدة (بالمشاهدة اقل من 150 مترا تقريبا غرب البئر). مشيرا أن جده الشريف عبدالله بن ناصر توفي في العام 1360هـ ودفن في هذه المقبرة القديمة والوحيدة، وأنه سمع منه ومن قبله كابر عن كابر أن الرسول صلى الله عليه وسلم أناخ هنا (حول موقع المسجد المزال) في قصة صلح الحديبية في السنة السادسة للهجرة. موضحا أن جده كان يسكن هو وأولاده وأسرته فقط، ولم تتجاوز بيوتات الحديبية حينها 50 بيتا فقط.

حرص الشريف عثمان على قراءة الفاتحة على روح جده في مقبرة الحديبية القديمة.

المنع سدا للذرائع

وفسر الشريف عثمان البركاتي أسباب هدم المسجد القديم بقوله: نعرف جميعا أن الزيارة للمواقع الأثرية القديمة كانت ممنوعة. في السابق لم يكن يستطيع أحد ان يصل هنا لزيارة المسجد، وفي السنوات الأخيرة تغير الوضع، وباتت وتيرة الزيارات ترتفع حتى أصبحت الحديبية تستقبل حاليا أكثر من خمسين حافلة يوميا في موسمي الحج والعمرة.

مشيرا الى أنه في السابق كان يشاع بين الزوار القادمين من الخارج عن موقع الأطلال القديمة التي لا تزال باقية خلف المسجد الحالي بأنها مساكن أمهات المؤمنين الذين قدموا مع النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية وأنهم كانوا يزورنه ويصلون فيها أيضا طلبا لبركة المكان حسب زعمهم.

أطلال المركز الأمني القريب للحائط الجنوبي لمسجد الشميسي القائم حاليا
وتذكر الشيخ عثمان قصة حدثت له مع وكيل أمارة منطقة مكة المكرمة الأسبق عبدالله الفايز بقوله: "طلبني الأخ عبدالله الفايز لتقديم شهادتي بعد ان وصلته آنذاك إفادة بأن هذا المكان (الأطلال القديمة) كان الرسول صلى الله عليه وسلم وأمهات المؤمنين يجلسون فيه، وأن الحجاج والمعتمرين كانوا يصلون فيه، ويأخذون منه حفنات من التراب طلبا للتبرك.

أضاف: أكدت يومها لوكيل الأمارة أن هذا المبنى يعود الى نحو 200 عام مضت، وأنه كان مركزا أمنيا للعسكر من ضمن المراكز المنتشرة على طريق الحاج القديم، وأنه بني في عهد الأتراك وكان يستخدم لأغراض أمنية فقط، وكلما تمر قوافل الحجاج ينفخون في البوص (صافرات) حتى يسمعهم المركز الآخر ليعلموا بأن قوافل الحجاج قادمة باتجاههم لحراستها، وهكذا حتى تصل القوافل الى مكة المكرمة.

مسجد السيدة عائشة في حي التنعيم (العمرة) بمكة المكرمة. (المصدر: إنترنت)

وأكد الشريف عثمان إن المسجد القائم حاليا حديث البناء، وتم بناءه مؤخرا على ناصية الطريق لم يمرّ عليه اكثر من 30 عاما تقريبا، حسب قوله. وعاد بذاكرته ليتحدث عن ملابسات هدم المسجد القديم بقوله: تم إزالة مبنى المسجد الصغير وتم إعادة بناءه على ذات النمط الخاص بمسجد التنعيم (السيدة عائشة رضي الله عنها) الحالي في حي العمرة، ولكن بثلث حجمه تقريبا.

أضاف: كان صديق والدي الشيخ عبدالله كعكي رحمهما الله هو مقاول مشروع إزالة مسجد الشجرة وإعادة بنائه في تصميمه الجديد لحساب وكالة الأوقاف التابعة سابقا لوزارة الحج في مكة والتي كان مديرها آنذاك السيد أمين العطاس رحمه الله.

وقال: بعد أن أنهى الكعكي بناء المسجد وقبل أن يتم تسليمه والصلاة فيه، جاءت الأوامر بإزالته فورا، فتم هدمه وقلعت قواعده الخرسانية وتم نقل أنقاضه وردمها خلف الجبال.

أضاف: في السنوات العشر الماضية بدأت أمانة العاصمة في تنفيذ  مشروع تسوير المقابر في مكة المكرمة، فتم تجديد سور المقبرة القديمة في الحديبية. وأذكر الى اليوم أنه كان بجانب السور القديم للمقبرة غرفة مبنية من الطين وبجانبها خزان ماء أثري وقديم تحت الأرض من عهد الأتراك كانت تستخدمه البادية للسقاية والوضوء للصلاة في مسجد الشجرة القديم.

بئر الحديبية محاطا بأسوار شركة محلية للمقاولات.

بئر المصنوع!

ويجيب الشريف عن سبب تسمية المنطقة بالشميسي بقوله أن ذلك نسبة لبئر قائمة على طريق الحاج القديم (جددها الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن في العام 1363هـ) ويقال ان الذي بناها شخص اسمه شمسي فسميت المنطقة باسمه. لكن هذه البئر (الحديبية) أقدم منها وهي أقدم بئر في المنطقة بحسب ما توارثناه من أسلافنا في المنطقة.

فوهة بئر الحديبية وتبدو طيها بحجارة القاحوط المستخدمة في الرواق العباسي في الحرم الشريف.

أضاف: هذه البئر قديمة من عهد الدولة العباسية، تم تجديدها في عهد الأتراك، ولا أعرف إن كانت هي البئر النبوية أم لا، ما أعرفه أن اسمها كان "بئر المصنوع". وقيل أن الحجارة المطوية بها هذه البئر هي من ذات نوع الحجارة (القاحوط) المستخدمة في بناء الرواق العباسي القديم في الحرم المكي الشريف.

ويؤكد الشريف عثمان البركاتي أن الأرض التي أقيم عليها المستودع الحالي الذي يوجد بداخله بئر الحديبية "كانت ملكا لأبي لكن حدودها كانت تبدأ بعد أرض المقبرة والمسجد القديم والبئر التي لم يقربها احد طوال القرون الماضية. وأن والدي رحمه الله قام ببيعها الى الشيخ عمر بن شلحان الرويس رحمه الله، ولا أعرف ما تم بشأن ملكية الارض بعد ذلك".

ملف مسجد الشجرة المفقود!

خريطة توضح موقع البئر عن مسجد الشجرة والمسجد الحالي والمقبرة القديمة.

من جانبه قال الشريف محمد بن شرف البركاتي أنه من المؤكد أن جميع التراخيص والمخططات (الكروكي) الخاصة بمسجد الشجرة القديم (بيعة الرضوان) لابد وأنها محفوظة في ملف كامل لدى ارشيف وكالة الأوقاف التي كانت تتبع سابقا لوزارة الحج والأوقاف (تتبع الآن لوزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف) وأنه من الممكن معرفة كل شيء عن مسجد الشجرة قبل وبعد إزالته في ملفات الوكالة.

خلال الأسابيع اللاحقة، اجتهدت صحيفة مكة للحصول على أي معلومة بشأن ملف مسجد الشجرة في أرشيف وكالة الأوقاف. ولم نحصل إلا على شهادة مصدر واحد، رفض الكشف عن هويته، يزعم فيها أن أحد أقربائه كان يعمل في وكالة الأوقاف، وأنه ابلغه بأن ملف وثائق وخرائط مسجد الشجرة تم سحبه من أرشيف الوكالة بعد تنفيذ أمر هدمه وإزالته، ولم يعدّ له وجودا منذ ذلك اللحين. غير انه لم يقدم دليلا ملموسا يؤكد ذلك غير شهادته الموثقة!.

إطار 1


ما الجديد الآن في الحديبية؟!

صورة حديثة لبئر الحديبية بعد إزالة شبك معدني أقامته شرة المقاولات.
·       تقدم عدد من أهالي الحديبية بشكوى أمام الجهات المختصة ضد شركة المقاولات التي قامت بالتعدي على حمى بئر الحديبية ومنعت الوصول إليه، وأكدوا أنه لا يوجد صكّ ملكية للبئر، وطالبوا برفع التعدي عليه والسماح للمسلمين بالوصول إليه.

تجديد وصيانة بعض أسوار المقبرة القديمة في الحديبية.

·       تقوم أمانة العاصمة المقدسة بأعمال تجديد لأسوار المقبرة القديمة.

فرش أرضية الأطلال القديمة للمركز الأمني السابق برمال نظيفة.

·       تم تهيئة أرضية أطلال المركز الأمني القديم خلف المسجد القائم حاليا وتجديدها برمال جديدة لتتسع للمصلين والزوار خلال موسم العمرة الحالي.

إنشاء مشروع جديد في الحديبية لصالح البنية التحتية لخدمات توسعة المسجد الحرام.

·       بدون أي ترميم أو تجديد لأسبلة الملك المؤسس رحمه الله في الحديبية، تم رفع الساتر المعدني حول السبيل رقم 2 والواقع بعد نحو 5 كلم من علامات حدّ الحرم باتجاه مكة بعد انتهاء مشروع إنشاء خزان الماء تحت أرض الحديقة الصحراوية.

إزالة الساتر المعدني حول سبيل الملك المؤسس رقم 2 في الحديبية
بعد إنتهاء مشروع إنشاء خزان مياة أرضي وتركه من دون ترميم أو تجديد.
شكرا للمتابعة.. الى اللقاء!

الخميس، 26 مارس 2015

إكتشاف أنقاض مسجد الشجرة "بيعة الرضوان" في المناخ النبوي بالحديبية. ( 5 - 6 )


إحدى الصور القديمة التي يشاع أنها لمسجد الحديبية قديما. (المصدر: إنترنت)


مكيّون يحلون لغزّ مسجد بيعة الرضوان!



مكةالمكرمة: عمر المضواحي
بعد جهد دؤوب ومخلص تم اكتشاف وتحديد ما يعتقد أنه الموقع التاريخي لمسجد الشجرة (بيعة الرضوان) الذي طمست معالمه بعد جدل فقهي وعلمي حاد انتهى بإزالة كل أثر له في نهاية القرن الهجري الماضي (العام 1399هـ).
تولى د. معراج بن نواب مرزا مستشار وكالة جامعة أم القرى للأعمال والإبداع المعرفي والأستاذ الزائر في مركز التحليلات الجغرافية في جامعة هارفارد الأمريكية، مهمة حسم الحيرة والاختلاف التي وقع فيها الجميع خلال الجولات الميدانية السابقة.

وبعد تطورات دراماتيكية صادفت مهمة البحث وتحديد موقع مسجد شجرة بيعة الرضوان القديم في منطقة المناخ النبوي بالحديبية، خاصة بعد إكتشاف خطأ أرقام الإحداثيات التي رصدت في كتاب عضو هيئة كبار العلماء أ.د عبدالوهاب ابو سليمان بعد جولة ميدانية في العام 1421هـ شاركه فيها د. معراج مع مجموعة من العلماء والخبراء المكيين، كان من الضرورة بمكان الاستعانة بالخبير الجغرافي المكي لتوضيح المسألة واستجلاء حقيقة الأمر، لوضع النقاط على الحروف.

وقبيل تحديد موعد الجولة الميدانية له، أمضى د. معراج مرزا وقتا طويلا للبحث في مكتبته ومركز معلوماته الضخم بمنزله عن كل ما يمتلكه من وثائق وخرائط وصورا فوتوغرافية تخص منطقة الحديبية، للاستعانة بها في مهمته الجديدة.. ومن هنا تبدأ الحكاية:

د. معراج يوضح لأعضاء مبادرة معاد مواقع المناخ النبوي الجغرافية في الحديبية
في صبيحة يوم الثلاثاء 17 نوفمبر 2014م كانت صحيفة مكة بمعية فريق مبادرة معاد لتعزيز الهوية المكية في انتظار وصول د. معراج مرزا للقيام بجولة ميدانية في المناخ النبوي بالحديبية، والوقوف معه على عين مكان مسجد "بيعة الرضوان" وأهم المواقع التي تم تحديدها خلال مشاركته في العام 2001م بمعية معالي عضو هيئة كبار العلماء الأستاذ الدكتور عبدالوهاب بن إبراهيم أبو سليمان وعشرة خبراء وفنيين آخرين في جامعة أم القرى ومركز أبحاث الحج والعمرة في رحلة علمية ميدانية (صباح الخميس 23 شوال 1421هـ) الى بعض المواقع أثرية شمال وغرب مكة المكرمة شملت منطقة الحديبية، قام د. أبو سليمان برصد تفاصيلها لاحقا في كتابه الشهير "الأماكن المأثورة المتواترة في مكة المكرمة ـ عرض وتحليل" الصادر عن مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي في العام 2009م.

د. معراج يشرح أمام مسجد الشميسي الحالي لكل من د. فايز جمال و م. أنس صيرفي المواقع النبوية في الحديبية
وقف د. معراج أمام باب المسجد الحالي مشيرا الى جهة الشمال قائلا: هناك يمكن مشاهدة ثنية المُرار (الكريمي حاليا) وهي درب بين الجبلين القائمين أمامنا التي سلكها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أثناء نزولهما في الحديبية. وخلفهما في عسفان توجد حرّة كراع الغميم. بينما خلف المسجد يقف الجبل الذي تعلوه القلعة التاريخية والتي تشرف على الوادي، وسمي الجبل أيضا باسم البئر المعروف ببئر الحديبية.

د. معرج برفقة م. أنس صيرفي خلال جولته في الحديبية.
وأكد في رده على سؤال لصحيفة مكة: أنه من المستحيل تحديد مساحة المناخ النبوي في الحديبية بدقة كاملة. تماما كما لا يمكن لأحد أن يعرف تحديد مساحة غزوة بدر ولا غزوة أحد بدقة، ولكننا جميعا نعرف حتما المواقع التي حدثت فيها هذه الأحداث من دون تحديد مواقعها بشكل قطعي.

أضاف: جميع النصوص التي تناولت قصة الحديبية تؤكد أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم نحو 1400 صحابي منتشرين في بطن الوادي ولم يكونوا متجمعين في كتلة واحدة. بدليل أنه عندما حدثت البلبلة بينهم نتيجة إعلان اتفاق النبي في معاهدة الصلح مع كفار قريش والتي قبل فيها صلى الله عليه وسلم العودة الى المدينة من دون إتمام مناسك العمرة، دخل النبي صلى الله عليه وسلم على أم المؤمنين السيدة أم سلمة رضي الله عنها في خدرها وقالت له: يا رسول الله أخرج لأصحابك، وانحر هديك وأحلق شعرك فإنهم سوف يقتدون بك.

أضاف: وبالفعل خرج النبي وفعل ما أشارت به عليه، وصار هناك نداء عام ينبه الجميع بما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مما يعني ان أصحابه كانوا متفرقين في بطن الوادي. فلا يمكن تحديد أو حصر منطقة المناخ النبوي بشكل قاطع لكنه حتما كان هنا في سهل الجبل وحول البئر وموقع مسجد الشجرة. ويمكن اعتبار البئر نقطة ارتكاز المناخ النبوي، والمعروف ان الناس لا تجلس جنب الآبار مباشرة ليتركوا المجال لسقاية الحيوانات والجمال والخيول والهدي وغيرها بل على مقربة منه. تماما كما هو الحال في بئر طوى ومكان مصلى النبي منه. حيث توجد مساحة كافية وبمئات الأمتار.

صورة من جولة الفريق العلمي الذي رافق د. أبو سليمان في العام 1421هـ لتحديد مواقع الحديبية

تغييرات متسارعة
خلال الجولة بدا د. معراج مرزا واثقا من الأمكنة رغم اعترافه بالتغيرات الهائلة التي حدثت على أرض المناخ النبوي في الحديبية بعد إنشاء المنازل والاستراحات والأحواش وانشاء الطرق الفرعية والرئيسية التي لم تكن قد أحدثت في جولته الميدانية مع فريق مركز أبحاث الحج قبل نحو 13 عاما مضت.
أخذت الحيرة تضرب يقين د. معراج وهو يقود الفريق مشيا على الأقدام من موقع المسجد الحالي سالكا بين الطرق الفرعية الفاصلة بين موقعي المقبرة القديمة وبئر الحديبية. كانت الأسوار الجديدة للمقبرة القديمة وحوائط مستودعات شركة RCC التي يقع البئر داخلها تعيق ذاكرته على تحديد المكان بدقة، وتثير شكوكه في آن واحد بعد أن غلب على ظنه أنه تم توسعة المقبرة القديمة من اتجاه سورها الشمالي والغربي بعد مشروع تجديد أسوار المقابر في مكة المكرمة قبل نحو ثمانية سنوات.

د. معراج مرزا يقف ( الى اليمين)على ردم في موقع مسجد شجرة بيعة الرضوان في الحديبية.
أسقط في يد د. معراج، بعد أن اصطدم بتلال ترابية عالية (عقوم) كانت تحجز مواصلة سير الفريق قدما. وكرر البحث مرارا  يمنة ويسرة عن منفذ في الطرق المسدودة بالعقوم تمكنه من تحديد موقع المسجد القديم. في آخر الأمر قرر صعود عقم ترابي مخلوط بأرتال من بقايا ردميات بنايات قديمة في محاولة أخيرة للتأكد من ذاكرته، بعد أن كاد يصيبه اليأس والقنوط.

جانب مما يعتقد أنه من بقايا قواعد مسجد شجرة بيعة الرضوان المزال في عام 1399هـ
لم يجد معراج شيئا يذكر يدله على طلبته، لكنه لاحظ فجأة بقايا قواعد خرسانية ملقية تحت الردميات، توقف للحظات وفكر باحتمالية أنها ربما تكون قواعد المسجد القديم الذي تمت إزالته في العام 1399هـ. بدأ يتجول في الموقع متفحصا كل خطوة يخطوها للأمام، وأخرج كاميرته الفوتوغرافية ليلتقط عددا من الصور الفوتوغرافية للموقع وسط دهشة واستغراب فريق الجولة.
برقت ملامح استبشار في وجه الرجل. وبدا أنه واثقا من وقوفه في عين المكان الذي وقفه قبل 13 عاما، بعد أن لاحظ وجود قضبان حديدية نافرة من بطن الأرض تحت العقم الترابي وبين السور الحديث للمقبرة القديمة!.

د. معراج يلتقط صورا توثيقية لمواقع المناخ النبوي في الحديبية
بعد جهد بسيط، وجد أن هذه الأسياخ والقضبان لاتزال متصلة بميدات (قواعد) خرسانية لا تزال مطمورة تحت الأرض، عندها أعلن لفريق الجولة أنه يغلب على ظنه وقوفه على موقع مسجد بيعة الرضوان المزال. مشددا على ضرورة التأكد في جولة جديدة من أرقام الإحداثيات التي رفعت وتم رصدها في كتاب الشيخ الدكتور عبدالوهاب أبو سليمان ليقطع كل شك لديه عن حدسه وملاحظاته في الموقع.

كانت الشمس قد توسطت كبد السماء، وظهر الإعياء والتعب يخالط ملامح فريق الجولة الذي أخذت مشاعرهم تتردد بين مصدق ومنكر لما رأوه وسمعوه من قائد الجولة. اتفق الجميع بعدها وهم يحثون الخطى عائدين الى سياراتهم أنهم حصلوا ـ على الأقل ـ على طرف خيط قادهم الى معلومة مؤكدة، وحقيقة غابت لأكثر من أربعين عاما مضت!.

إطار 1
عضو هيئة كبار العلماء يوثق موقع الحديبية في كتاب "الأماكن
 المأثورة المتواترة في مكة"

كتاب الشيخ الدكتور عبدالوهاب أبو سليمان.

أرفق عضو هيئة كبار العلماء الشيخ الدكتور عبدالوهاب بن إبراهيم أبو سليمان في كتابه الشهير "الأماكن المأثورة المتواترة في مكة المكرمة ـ عرض وتحليل" ملحقا خاصا في كتابه بعنوان "رحلة الى بعض المواقع الأثرية شمال وغرب مكة المكرمة" قام بها المؤلف بعد ترتيب من د. أسامة فضل البار وكان حينئذ رئيسا لمعهد أبحاث الحج في جامعة أم القرى بتاريخ يوم الخميس 23 شوال 1421هـ  (19 يناير 2001م).

السور الخلفي سور المقبرة القديمة. 1) د. ابو سليمان، 2) د. عويد المطرفي 3) المصور كامل أبو الخير،
 4) د. أسامة البار، 5) سمير نتو 6) فيصل ملا (بظهره أول الصورة)، 7) مصور تلفزيوني 8) عبدالعزيز قطب.

رافقهما في الجولة كل من د. عويد بن عياد المطرفي رحمه الله رئيس قسم القضاء (سابقا) ووكيل كلية الشريعة والدراسات الإسلامية للدراسات العليا والبحث العلمي في جامعة أم القرى (الذي كان يتولى مهمة التعريف بالطريق والأماكن التاريخية والأثرية) ود. معراج بن نواب مرزا أستاذ الجغرافيا في الجامعة، وعبدالعزيز قطب، وعدنان عبدالعزيز قطب، وسمير نتو ود. عبدالله شاوش وفيصل ملا والمصور السينمائي طلال قاضي، والمصور الفوتوغرافي كامل أبو الخير برحلة ميدانية لزيارة مواقع أثرية شملت مرّ الظهران (الجموم) و عسفان، والحديبية.

إطار 2


               الحديبية كما رآها فريق شرعي وعلمي في العام 2001

صورة توضح خيمة يستريح فيها النحالين لبيع العسل في الحديبية ويبدو بئر الحديبية خلفهما يسارا. من مجموعة د. معراج الخاصة)

تسرد صحيفة مكة النصّ الذي أورده المؤلف عن موقع المناخ النبوي في الحديبية (ص 262) .. كتب د. عبدالوهاب أبو سليمان يقول " ثم وصلنا الى الشميسي ( الحديبية ) ووقفنا على المكان الذي تمت فيه بيعة الرضوان، وكان فيه سابقا مسجد قديم، فأمرت وزارة الأوقاف عام 1399ه (1979م) بإنشاء مسجد جديد على موقعه، وبعد إقامته، جاءت الأوامر بإزالته فورا، وقد وجدنا عند وصولنا الموقع عددا من بائعي العسل معهم مناحلهم على سيارات، ووجدنا بالقرب من الموقع ـ الى الجنوب ـ بئر قديم لازالت المياه تشاهد في قاعه البعيد، التي ربما يصل عمقها الى حوالي 30 مترا. وإحداثيات موقع بيعة الرضوان هي: 21:26:09 شمالا و 39:37:40 شرقا" (وهي إحداثيات غير دقيقة بعد التثبت منها في جولة ميدانية مع فني مختص برفع الإحداثيات.

إطار 3

أبو سليمان لـ مكة: أسألوا د. معراج فلا ينبئكم مثل خبير !

مراسل مكة يصافح الشيخ الدكتور عبدالوهاب ابو سليمان في إثنينية الوجيه عبدالمقصود خوجه

بعد انتهاء حفل تكريم د. معراج مرزا في اثنينية الوجيه عبدالمقصود خوجة بجدة مساء يوم الاثنين (5 يناير 2015) التقت صحيفة مكة بالشيخ أ.د عبدالوهاب بن إبراهيم أبو سليمان عضو هيئة كبار العلماء السعودية حول رأيه عن عدم دقة إحداثيات موقع مسجد الشجرة القديم في الحديبية والتي سطر أرقامها في كتابه الشهير.

وقال ردا على سؤال لصحيفة مكة: لم اكتب كتابي الا بعد بحث مضن ورجوع الى كتب التاريخ والمصادر الموثقة، وأضفت إليه ملاحق لجولات ميدانية قمنا بها للتثبت من كل موقع فيه. في العام (عام 2009) طبع الكتاب عن طريق مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي في لندن، ولا أتذكر الآن كيف حدث ذلك الخطأ. هذا الأمر في غاية الأهمية وأشكر لكم تدقيقكم لهذه المعلومة، وجزاكم الله خير أن نبهتموني إليه. وأرجو تزويدي بأرقام الإحداثيات الصحيحة لتدارك ذلك في الطبعة القادمة للكتاب.

أضاف: عندما صدر الكتاب كانت له اصداء واسعة، والتقيت مع بعض كبار المسؤولين للنقاش حول محتواه، وكيفية الحفاظ على هذه الأمكنة، لكن للأسف لم يحدث شيء من ذلك الحين الى الآن.
وأعلن الشيخ أبو سليمان عن مباركته لكل جهد في إحياء الأمكنة النبوية والتاريخية في مكة والمدينة على وجه خاص. وقال: إذا تم إحياء منطقة الحديبية فهذا أمر جيد، وهذه الأماكن لا يمكن إعادة إحياءها مرة أخرى الا بإرادة ملكية سامية كي تتم مثل هذه المشاريع.

أ. د. معراج نواب مرزا في منزله بمكة المكرمة.

من جانبه قدم د. معراج مرزا تفسيرا للخطأ في أرقام الإحداثيات الواردة في كتاب الشيخ أبو سليمان. وقال: إن أجهزة GPS تقدم قراءات خاطئة أحيانا بسبب تغييرات متعمدة تنفذها الإدارة الأمريكية على مواقع الأقمار الصناعية، خصوصا في أوقات الحروب والازمات السياسية الدولية.

أضاف: بحسب خبرتي في الخرائط والمصورات الجوية حدث مثل ذلك معي أكثر من مرة. وباتت من الأمور المعروفة في مجال برمجة الأقمار الصناعية. حيث تعمد وزارة الدفاع الأمريكية على تغييرات محددة ومحسوبة في مواقع الأقمار الصناعية بهدف إعطاء أرقام إحداثيات خاطئة للأجهزة الأرضية لإرباك أي خطط معادية.

خريطة من مجموعة د. معراج مرزا تحدد أهم المواقع في الحديبية.

وزاد: لقد تأكدت من هذا الأمر بعد عدة تجارب في مطابقة خرائط قديمة مصورة رقميا من قبل أمانة العاصمة المقدسة، مع صور لدي سحبتها عبر برنامج قوقل إيرث. وعندما أحاول مطابقة صور الأمانة مع صور قوقل لا تنطبق تماما وبشكل غير مفهوم، فجميعها تم التقاطها عبر إحداثيات فنية وعلمية. وبعد أن سألت وبحثت في هذه المسألة، وجدت أن هناك تغييرات متعمدة تحدث في بعض الأحيان لمواقع الاقمار الصناعية.

مشيرا الى أنه لا يستبعد مصادفة ذلك خلال رفع الإحداثيات في الرحلة الميدانية للدكتور ابو سليمان، مما أعطى قراءات خاطئة للإحداثيات يومها، وأرجح أن حدوث هذا الخطأ تم بسبب ذلك، من دون قصد من فريق الجولة.

هنا تدخل الشيخ د. أبو سليمان معقبا على حديث واستنتاج د. معراج مرزا بقوله: ولا ينبئك مثل خبير!.

الأربعاء، 25 مارس 2015

الحديبية.. أسئلة مفتوحة؟! ( 4 ـ 6 )




في الساعة التاسعة من صباح يوم السبت ( 15 نوفمبر 2014م )  كان المشهد العام للحياة في منطقة الحديبية رتيبا خاليا الا من بعض المارة والسيارات التي تنطلق بسرعة في اتجاهي طريق جدة ـ مكة القديم صعودا ونزولا. كانت صحيفة مكة على موعد في تمام العاشرة عند بوابة مسجد الحديبية مع د. فواز الدهاس أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية في جامعة أم القرى وفريق من اعضاء مبادرة "معاد لتعزيز الهوية المكيّة".

اهتبلنا فرصة للصعود الى جبل صغير خلف المسجد لاكتشاف الموقع من علّو كاف والتقاط بعض الصور الفوتوغرافية للمنطقة. كلما ارتقينا صعودا كانت الصورة تبدو أكثر وضوحا وروحانية. ها هو وادي الحديبية يبدو الآن فسيحا وأكثر جمالا ورحابة. سجادة من الرمال الصفراء تجملها كثبان ومستوطنات سكنية صغيرة وأشجار السَّلم (نوع من أشجار الطلح) تنتشر حول أخاديد وكثبان الوادي في خجل واضح.

لا يشك الناظر إليها أن قساوة الجفاف والتصحر، وفؤوس الحطابين الجائعة قد أوجعت قلب الوادي وجذوع الشجر الجافة. ترخي مفرق أغصان ذات ورق دقيق وشوك طويل وحاد الى الأرض، لتوفر ظلا تحت لهيب الشمس الحارقة لحيوانات الفلاة، وللرعاة ولمواشيهم الرعويّة من الضأن والغنم والإبل التي تجد فيها غذاء جيدا، يسرق منها لونها الأخضر البهيج. كانت أشجار السلم الحدباء تبدو مهيبة وهي ساجدة الطرف كأنها تجأر الى الله من بؤس حالها في هذا الوادي المقدس!.

من هذا العلو؛ يقشعر جلد المشاهد وهو يتخيل عبور قافلة النبي صلى الله عليه وسلم برفقته 1400 رجلا في السنة السادسة للهجرة لأداء العمرة وهم يخترقون هذه السلاسل الجبلية السوداء وكثبان الرمال العطشى، وهم يرتدون إزار الإيمان متخففين من الزاد والماء والملابس، ليس معهم غير الله وكلمات يتردد صداها في جنبات الوادي "لبيك اللهم لبيك!".

لا يخترق قلبك شك، أنك تشاهد مناخ النبي وأصحابه أهل الرضا والرضوان على بعد رمية حجر أمام عينيك. وها هو بئر الحديبية وأعلام حدود حرم مكة تلمع بوضوح في جبين الأفق غربا.

منظر عام للحديبية وتبدو الجبال التي تليها يسارا ثنية المرار (الكريمي).

أرض الصلح!

يقول الباحث المكي غسان بن مظهر نويلاتي: لا يخالج أحدٌ الشك هنا أنك في أرض الصلح في الحديبية، فهناك ـ وأشار الى جهة الشمال ـ دخل النبي صلى الله عليه وسلم من ثنية المُرَار (فجّ الكريمي) وعندما تشاهد خرائط المنطقة عبر موقع قوقل إيرث ستجد أن فج الكريمي ينتهي الى هنا في خط مستقيم واضح.
أضاف: الى اليمين ـ خلف المسجد الحالي ـ يبدو جبل الحديبية شاهقا تعلوه بقايا قلعة عثمانية قديمة، لابد وأن هذا الجبل كان حدّا اتخذه النبي صلى الله عليه وسلم كخط دفاع عسكري يحمي ظهر مناخه وأصحابه من أي غائل يأتي من خلفه.

وأوضح النويلاتي أن مسيرة النبي من المدينة قاصدا مكة توقفت في مرّ الظهران (الجموم حاليا) ثم أمر صلى الله عليه وسلم بالانعطاف غربا (الى أرض الحديبية) حيث توقفوا هاهنا. كان النبي صلى الله عليه وسلم يتجافى بأصحابه العزّل من السلاح، ويقودهم بين تلكم الجبال والأودية تجنبا من صولة سيف خالد بن الوليد الذي كان يترصد لهم في مائتين من فرسان قريش من خلف جبل (كراع الغميم) فليس لهم قبلا بمواجهة ابن الوليد وحقد قريش القديم وعطش سيوف الانتقام من محمد وأصحابه. هناك، وخلف تلكم الجبال البعيدة (عسفان) توقف النبي وصلى بأصحابه صلاة الخوف لأول مرة في الإسلام، ليربط على قلوبهم بعروة الله وحفظه المتين.

التقطت الكاميرا بعض الصور الفوتوغرافية، وهممنا بالنزول للوفاء بالموعد عند مسجد الحديبية الحالي حيث كان الجميع في الانتظار.

رافق الجولة فني مختص لرصد مواقع إحداثيات كتاب د. أبو سليمان.

معاد وخبير الـ GPS

كان د. فواز بن علي الدهاس استاذ التاريخ في جامعة ام القرى وعضو لجنة الآثار في هيئة السياحة والآثار، الذي حرص أن يرافقه الباحث المكي بدر بن ستر اللحياني المتخصص في تاريخ ومواقع منطقة الشميسي، في معية فريق من أعضاء مبادرة "معاد لتعزيز الهوية المكيّة" يتقدمهم رئيس المبادرة د. فائز بن صالح جمال، ونائبه المستشار مهندس جمال شقدار، والمهندس أنس بن محمد صالح الصيرفي رئيس مكتب الأبنية للاستشارات الهندسية، والباحث المكي غسان بن مطهر نويلاتي، وخبير البيئة والأرصاد الاستاذ حسن عبدالشكور في هيئة تطوير مكة المكرمة والمشاعر المقدسة سابقا.

كما استعانت "معاد" بفريق فني متخصص بالرفع المساحي من مكتب الأبنية للاستشارات الهندسية في مدينة جدة، وخبير متخصص في تحديد ورفع إحداثيات المواقع بأجهزة GPS لمطابقة وتدقيق الإحداثيات التي وردت في كتاب "الأماكن المأثورة المتواترة في مكة المكرمة" تأليف الأستاذ الدكتور عبدالوهاب بن إبراهيم أبو سليمان عضو هيئة كبار العلماء إثر جولة ميدانية واستكشافية قام بها في منطقة الحديبية العام 1421 هـ بصحبة علماء في الشريعة الإسلامية والسيرة النبوية، وخبراء في التاريخ والجغرافيا من مركز أبحاث الحج.

كان الهدف واضحا للجميع في هذه الجولة؛ رصدّ شهادة د. فواز الدهاس عن مواقع منطقة المناخ النبوي، وتدقيق المواقع القائمة حاليا (مسجد الحديبية، بئر الحديبية النبوي) ومطابقتها مع المعلومات والمعطيات التي تم جمعها في الجولات السابقة.

د. الدهاس الثاني من اليمين مع فريق مبادرة معاد والباحث اللحياني الأخير يسارا.

لوح أثري مفقود!

انتظم الجميع لالتقاط صورة تذكارية تحت اطلال البناء القديم المجاور للمسجد. كانت المفاجأة الأولى في انتظارنا حينما اكد د. فواز أن هذه الاطلال لا تعود لمسجد قديم كما هو شائع حاليا، وانما هي مجرد بقايا مبنى لمركز أمني يعود الى أكثر من 250 عاما في زمن حكم الأشراف على طريق الحاج القديم الى مكة!. مؤكدا أن معلومته استقاها من أحد كبار السن الذين سكنوا في الحديبية. وأن كل ما نشاهده هنا من تغييرات هو من التعديات على أراضي المنطقة التي حدثت خلال العقود القليلة الماضية.

د. الدهاس وتلميذه اللحياني داخل مسجد الشميسي الحالي.

في الداخل، وعند محراب المسجد دار نقاش طويل مع د. فواز الدهاس حول مشاهدته سابقا للوحة تأسيس تاريخية كانت مثبتة فوق محراب المسجد الحالي، مبديا استغرابه من إخفائها. قبل أن يتيح المجال للباحث بدر اللحياني للحديث عن معلوماته حول هذه اللوحة الأثرية، والأطلال القديمة للمركز الأمني خلف المسجد.
قال الباحث بدر اللحياني: بالفعل، هي مركز أمن في عهد الاشراف، وليس له أي صلة بالمسجد الحالي تماما. مشيرا الى أنه وجد ذكر هذا البناء وصفته في كتاب "مرآة الحرمين" لإبراهيم رفعت باشا الذي ألفه في عام 1318هـ.
أما عن اللوح التأسيسي فيعود الى بناء قديم قبل البناء الحالي للمسجد، يسجل تاريخ بناء مسجد في عهد السلطان محمود خان عام 1250ه حسب مشاهدة رفعت باشا الذي ذكر انه شاهد حجرا تأسيسي على المحراب!.
لكن الباحث اللحياني أكد أيضا على عدم وجود أي مسجد في الحديبية في عهد المؤلف أبو جار الله فهد الهاشمي المتوفي سنة 954هـ حيث لم يسجل في كتابه "اتحاف الورى" الذي انتهى من تحريره في عام 947هـ أي ذكر لمسجد قائم في الحديبية حينذاك.
وأن المؤرخ ابن فهد وصف الشميسي ـ نسبة الى رجل صاحب بئر كان اسمه شُميّس ـ بأنها عبارة عن منطقة زراعية فيها آبار. لكنه لم يشر اطلاقا الى أنه كان فيها (قبل منتصف القرن العاشر) مسجدا أو نحوه في عهده. رغم أنه ذكر في كتابه وجود أعلام حدّ الحرم (الغربي) في منطقة الشميسي.

الباحث ستر اللحياني يوثق معلوماته من كتاب مرآة الحرمين.

شكوك الأستاذ وحقائق تلميذه!

بالعودة الى د. الدهاس أكد أنه من الصعوبة بمكان تحديد نقطة معينة هنا، وتعيينها بأنها نقطة نزول النبي صلى الله عليه وسلم ومناخه في الحديبية. كما شكك في أن تكون بئر الحديبية الحالية هي البئر النبوية!. وقال: "لا أعتقد أنها هي البئر المقصودة" من دون أن يسند رأيه بأدلة تؤكد اعتقاده. لكن تلميذه الباحث اللحياني اعاد الإشارة الى وجود المسجد والبئر في كتاب إبراهيم رفعت باشا (مرآة الحرمين) الذي كان رئيسا للمحمل المصريّ الى مكة المكرمة ثلاث مرات. مؤكدا أن المؤلف وثق أهم ما ورد في تاريخ الأمكنة النبوية في مكة ووصفها تماما كما هي موجودة في عصره قبل نحو 118 عاما في كتابه (صدر في عام 1318 ه).

أضاف بقوله: وصل المؤلف إبراهيم باشا الى هذا المكان (الشميسي) وسرد وصفا عن مسجد البيعة (الرضوان) وكتب عنه بقوله: "مسجد الشميسي أو مسجد البيعة وهو على اليسار مربع الشكل، طول ضلعه 15 مترا مبني بالحجر الأزرق، بناء متينا ومجصص وفيه ثلاثة أروقة، وقبته مكتوب فيها؛ (هذا مسجد بيعة الرضوان مأثرة من مآثر حبيب المنان عمره المليك الى رحمة الرحمن المغفور له السلطان محمود خان سنة 1254 هـ)، وهذا المسجد موضع الشجرة التي بايع عندها الناس الرسول صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان في عام الحديبية وأنزل الله قوله تعالي "لقد رضي الله عن المؤمنين الذين يبايعونك تحت الشجرة" وبالشميسي بئر عمقها 10 أمتار بالتقريب مبنية بالحجر وماؤها مقبول".



عاد اللحياني يقرأ من كتاب (مرآة الحرمين): ومنها ( أي البئر السابق ذكرها) تغير الاتجاه 110 درجة وفي الخامسة نهارا وصلنا الى علمين ومنهما ابتدأ الحرم من الجهة الغربية وهما عامودان مبنيان بالحجر ومجصصان مربعا الشكل (القائمة حاليا). وبجوار العلم الشمالي بئر مبنية بالحجر سمك حائطها 110 سم. وقطرها 4 أمتار. وعمقها نحو 25 مترا، وبجوارها مشرب سبيل مبني بالحجر ومكتوب عليه  أبيات باللغة التركية بخط جميل.


مجسم لناقة النبي القصواء في متحف دار المدينة.

القصواء وفيل أبرهة!

عاد د. الدهاس الى الحديث وقال: الثابت عندي نزول النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من ثنية الكريمي ثم توقفت فجأة ناقته القصواء في الحديبية، وأبت أن تواصل السير؛ فقال الصحابة: "خلأت القصواء.. خلأت القصواء!" أي حرنت وبركت من غير علّة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "والله ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق (أي عادة) ولكن حبسها حابس الفيل (فيل أبرهة الأشرم) ثم قال صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لا يسألوني (أي قريش) خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أجبتهم عليها".

ثم قال د. فواز معلقا على هذا الحديث النبوي المشهور: أميل الى أن وقوف القصواء مشابه لوقوف فيل أبرهة بأمر إلهي لا نعرف الحكمة فيه. فالذي حبس الفيل عن دخول مكة هو الذي حبس القصواء عن دخولها ايضا لحكمة لا يعلمها الا الله سبحانه.

أضاف: لعل الحكمة هنا في رأيي هي أن هناك أناس أسلموا في مكة خفية، فلو دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة خيف عليهم أن تقتلهم قريش، أو يساء إليهم بعد معرفة إسلامهم. ولهذا أرسل النبي صلى الله عليه وسلم سيدنا عثمان بن عفان الى مكة وبقي هو وأصحابه في الحديبية خارج حدود حرم مكة.
 
غلاف كتاب د. عبدالوهاب ابو سليمان.
إحداثيات كتاب أبو سليمان!

كان فريق مبادرة معاد قد استعان بفني مختص برفع الإحداثيات ومزودا بجهاز GPS ليدل الجميع الى عين الموقع الذي رصده د. عبدالوهاب أبو سليمان ورفع إحداثياته في العام 2001م. هنا أشار د. الدهاس الى عدم علمه بمعلومات الإحداثيات الواردة في الكتاب وقال " لقد قرأت كتاب د. ابو سليمان ، لكنني لا أتذكر أنني مررت على هذه المعلومة تحديدا فيه".

سار الركب في ثلاث سيارات، متتبعا خط السير الموضح على جهاز GPS بيد الفني المختص الذي سبق الجميع. خلال دقائق قليلة توقفت المركبات بعد أن خاضت طريقها غربا عبر طرق وعرة حتى انتهت في وسط تلة ناهدة قليلا، تحفها رمال وأحجار ساقتها سيول منقولة الى قلب الوادي الفسيح. كانت الى البعد شجرة سَلم حدباء تقف وحيدة في هذا اليباب الممتد الى مالا نهاية.

شجرة سلم حدباء بالقرب من إحداثيات كتاب أبو سليمان في الحديبية

التف الجميع حول الدكتور فواز الدهاس وتلميذه الباحث، وسرعان ما أكد الرجلان أننا نقف داخل حدود حرم مكة. وأن الثابت قطعا أن مناخ النبي صلى الله عليه وسلم كان خارجه. مشيران الى أنه لا بئر في المكان، وليس هناك ما يشي بأن الموقع كان طريقا قديما للحجاج الى مكة المكرمة!.

الباحث بدر اللحياني أفاد بقوله: من المستبعد أن يكون مناخ النبي هنا، لأنه بعيد تماما عن الخط الرئيسي الذي سار فيه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أنه لا توجد أي آثار أو معالم تثبت صحة الموقع. هنا صحراء قاحلة، وهي داخل نطاق حدود حرم مكة. والثابت أن مناخ النبي كان خارج حدود الحرم وأنه كان صلى الله عليه وسلم قريب منه بمسافة تمكنه من أداء فروض الصلاة داخل حدود حرم مكة، والعودة الى مناخه في الحلّ بعد فروغه من فروض الصلوات الخمسة.

التقط المهندس أنس الصيرفي طرف الحديث مؤكدا أن ملكية هذه الأرض تحت يد شركة البلد الأمين التابعة لأمانة العاصمة المقدسة. مشيرا الى أن اسم هذه المنطقة (بلاد المقرح). وهي داخلة في حدود الحرم، لأن حدها الغربي هو جبل أظلم ـ وأشار إليه ـ ويحدها شرقا جبلي الدوم الحمراء، والحد الجنوبي لبلاد المقرح هو درب (الموشح) وتمام الحدّ جبال الموشح. وأما تمام الحد الشمالي هو درب (دلّدَلّ) وهو طريق قديم بين جدة ومكة. وتمام الحدّ قهوة (البُزم) وكانت معروفة في الشميسي الى وقت قريب. واتفق م. الصيرفي أنه لا يمكن ان يكون هذا الموقع هو المقصود بشكل مطلق!.

كانت وجوه الجميع واجمة، وقد أسقط بيدها بعد أن ثبت لها أن موقع إحداثيات كتاب (أمكنة مكة المكرمة المتواترة) غير دقيقة، ولسبب مجهول صادف تسجيل الإحداثيات من الشيخ ابو سليمان وفريق جولته الاستكشافية الذي يحسب لهم جهدهم وحرصهم ووقوفهم الميداني في موقع الحديبية بعد مرور نحو 1430 عاما هجريا من تاريخ واقعة بيعة الرضوان، وصلح الحديبية (العام السادس من الهجرة)، لتثبيت وتوثيق ما أستقر عليه رأيهم العلمي والشرعي الذي يدينون الله به.

كان صفير الرياح يشبه حالة الإحباط التي أحاطت وخيمت على قلوب الحاضرين، وأخذ الجميع يضرب كفا بكف حسرة على عدم دقة المعلومة، والتفريط بأحد الأدلة القوية التي كان الجميع يعقدون عليها الآمال لتقودهم الى الموقع الصحيح للمناخ النبوي في الحديبية.

صورة لرحلة د. أبو سليمان والفريق العلمي الى الحديبية في العام 1421هج

لا بد وأن هناك خطأ جسيما قد وقع. فلا يمكن أن يقع خطأ كهذا من فريق علمي يشهد الجميع على أنه يضم يومئذ (أعلم أهل الأرض) عن المواقع والأمكنة النبوية في مكة المكرمة. وطفق الجميع يطرحون في حيرة أسئلتهم المفتوحة بلا جواب؛ هل أخطأ الفني الذي رفع وكتب أرقام تلك الإحداثيات وزود الشيخ بها؟. أم وقع الخطأ أثناء طباعة الكتاب، أو ربما عدم تدقيق لأرقام لإحداثيات عند المراجعة؟!. كانت كل الاحتمالات واردة. لكن الثابت يقينا الآن أنها أرقام إحداثيات غير دقيقة.


وبات من الضرورة بمكان مراجعة الشيخ الدكتور أبو سليمان أو أحد من فريق جولته لإبلاغهم بعدم دقة ارقام الإحداثيات التي تم رصدها في الكتاب، ومعرفة ماذا تم في تلك الجولة الميدانية التي حدثت قبل نحو 14 عاما.. وتلك قصة أخرى!.