الأحد، 15 يونيو 2014

الأرجنتين.. أكثر من مجرّد كرة قدم!



 
بيونس آيرس: عمر المضواحي
بل هي أكثر من ذلك بكثير..!
وباختصار، إذا أردت تجربة رحلة سفر غنية بلذة اكتشاف عالم جديد وبعيد، فضع الأرجنتين على قائمة وجهات سفرك المفضلة.
من المستحيل تلخيص بلاد الفضة (أرجنتينا) التي وصلها المستعمر الإسباني في العام 1526م إلى أن نالت استقلالها في العام 1830م، في رحلة لم تتجاوز 9 ليال وعشرة أيام. لكنها كافية لاكتشاف بعض مكامن فتنتها وسحرها الأخاذ بدء من فنادقها الفارهة وانتهاءً بسلة خيارات سياحية تمنحك شعورا جديدا كل يوم.
تذكر دوما أنه لن يمكنك قطف وردة من دون مشاغبة شوكها الحاد. فالسفر من الرياض إلى هنا قطعة من العذاب مع 24 ساعة طيران على الأقل. لكن، وكما يقال دوما، لا حلاوة بلا نار. ستجد في استقبالك بواكير شتاء لطيف ينسيك حتما حرارة الصيف العربي اللاهب. ونهارا قصيرا يمنحك ساعات أطول للسهر والمرح في ليالي كل الأماكن العامرة بالأنس والموسيقى والحياة المتدفقة وبأسعار مناسبة لكل ميزانية.
 

بيونس آيرس
تعرف بأنها باريس أمريكا اللاتينية. الحقيقة أن هذا الوصف ضيّق على هذه المدينة التي وضعت لبناتها الأولى على النمط العمراني الإسباني في العام 1880م. فهي تلخصّ وبجدارة أكثر من مدينة عالمية، بكل معالمها وفنونها العمرانية وثقافاتها المتباينة بفضل تمازج عرقها اللاتيني واختلاطه بأصول وثقافات المهاجرين القدماء من معظم بلدان القارة الأوربية.
وبالرغم من أن الأرجنتين كانت موقعا لأعظم أدباء المهجر، ومن بينهم إيليا أبو ماضي وآخرون، وتعيش فيها جاليات عربية مهاجرة منذ عقود بعيدة استطاعت الأرجنتين أن تهضمهم بسهولة وأن تمنحهم مزايا المواطن الأصلي غير منقوصة.
يقول وليد سطام القدور وهو أمين عام الغرفة التجارية العربية الأرجنتينية "كان للمهاجرين العرب 40 مقعدا في مجلس النواب من أصل 280 مقعدا إبان حكم الرئيس السابق (السوري الأصل) كارلوس منعم". إلا أنه وبالقدر نفسه لا يعرف الأرجنتينيون شيئا عن السعودية والخليج العربي. ربما الجمال والصحراء ومدينة دبي!.
العاصمة بيونس آيرس التي اتخذت اسمها من النسيم العليل و "الرياح الطيّبة"، منظمة وأنيقة قادرة على أن تغرق مشاعرك كل لحظة بفيض من المفاجآت غير المتوقعة بين مبانيها الكلاسيكية وأبراجها العصرية. كل أربعة شوارع تنتهي بميدان متوجا بنصب تذكاري يحكي جزءا من تاريخها.
كل الطرقات فسيحة ونظيفة وخضراء دائما. وستدعوك للابتسام وأنت تشاهد جمال رسومات الجرافيك العفوية على كل جدار بعيد عن الأنظار. كما أن سكانها أوفياء للأيقونات الخالدة في تاريخهم الوطني. ستشاهد حتما وبكثرة لافتة تماثيل وصور ورسومات كاريكاتورية لمارادونا وإيفيتا بيرون وتشي جيفارا وآخرون.
 
 
نهر الفضة
تتكئ بيونس آيرس في غنج ظاهر على أعتاب نهر الفضّة (ريو دي لابلاتا) وهو أعرض نهر في الأرض (220كلم). وهو نهر كاف لكل الأنشطة البحرية التجارية والعسكرية والترفيهية للمدينة. تقول لورينا فالي وهي مرشدة سياحية أن خمس المياه العذبة في العالم موجودة في بلاد جبال الإنديز وتجري بوفرة في كل سهولها الواسعة. وأن أخصب أرض وتربة في العالم توجد في الأرجنتين.
في رحلة إلى منطقة المزارع المحيطة بشمال العاصمة كانت قطعان الأبقار بالكاد ترى وسط قصب حقول القمح والذرة. تبدو ساكنة في كسلّ باد لا ترفع رأسها عن أرض سخية بالأعلاف والمياه العذبة. من المعروف عالميا أن الأرجنتين تشتهر بألذ اللحوم الحمراء في العالم. كما أن قوائم الطعام هنا متنوعة ولذيذة وسخية جدا وبسعر مقبول.
أما طعم الفواكه والخضروات هنا فهي حكاية أخرى. التفاح لذيذ، وتكاد تملئ جيوبك بثمرات ناضجة منه كلما قابلت محلا يعرضها بطريقة جميلة. شيء واحد لم يرق للذائقة؛ المخبوزات وبأنواعها. ويبدو أن بلاد الباربيكيو والقمح لم تكتشف بعد ـ في شكل عام ـ المعادلة الصحيحة لعجينة الخبز المثالية.
 
الليل والنهار
في منتصف شهر مايو الماضي قدمت وزارة السياحة الأرجنتينية دعوة للصحافيين والإعلاميين في السعودية عبر لجنة الإعلام السياحي في الرياض لاكتشاف جانب من منتجاتها السياحية المتنوعة في العاصمة أولا، وفي مدينة كالافاتي النائية في قعر الجنوب البارد للكرة الأرضية.
كان فصل الخريف برياحه الخفيفة يلملم بقايا أوراق الشجر المتساقط بلونها الكموني الأخاذ. وخلال خمسة ليال كانت بيونس آيرس تستعد لكل مساء برشقة مطر خفيف تغسل الشوارع وتعيد البريق للإسفلت واللمعان لأعمدة الإنارة وجذوع الأشجار استعداد لخروج الأهالي لقضاء أمسيات هانئة. وللجميع مكان يليق به ويضمن له السعادة في جو آمن.
الأرجنتينيون يفضلون الخروج كل ليلة على البقاء في منازلهم. المقاهي والمطاعم ترحب بالجميع دوما على وقع الموسيقى ووشوشات المحبين في أحاديث الأمسيات الهادئة. المسارح وقاعات السينما وأندية الليل وفيرة هنا، كما أن الحدائق المضاءة تفتح ذراعيها لذوي الدخل المحدود ليلا ونهارا.
مع شروق شمس الصباح وطوال ساعات النهار تتفتح على نواصي الطرقات أكشاك بيع الورد والزهور والنباتات الجميلة، وأخرى للصحف والمجلات والكتب، وثالثة للسفونيرات والتذكارات الصغيرة أمام المقاهي ومطاعم الإفطار المشرعة الطاولات والكراسي في الهواء الطلق.
بعد كوب أو اثنين من مشروبك المفضل، لن تعدم خيارا متاحا للقيام بجولات سياحية على المتاحف والأسواق المتنوعة ومدن الملاهي والرحلات البحرية وجولات اكتشاف المدينة بالحافلات المكشوفة. البرامج السياحية هنا لا تختلف عن نظيراتها في أي وجهة سياحية عالمية. وهي متنوعة وتشمل كل شيء يخطر على بال السائح. وستجد نفسك تزاحم سير أناس ودودين فوق الأرصفة ومقاعد النقل العام المختلفة. وستلاحظ أن مسحة من الرضا والقناعة تنعكس بابتسامات لذيذة على وجوه الجميع وهم يبادرونك بكلمة بون دياس (صباح الخير).

 
عالم مجنون
الشعب الأرجنتيني يبدو متطرفا في اغتنام لحظات لذة العيش. يقف دوما على حافة كلّ شيء. ويعيش أيامه وكأنه اليوم الأخير في حياتهم. يدينون بالمسيحية، ويتبعون الكنيسة الرومانية الكاثوليكية ( وهم فخورين الآن بأن رأس الفاتيكان وبابا روما هو الأرجنتيني خورخي بيرغو غليو) ومع ذلك يجدون متعة خاصة بالحياة على أقصى خطوط التماس، ويعرفون كيف يصنعون لحظات تترنح بين العقل والجنون، الحياة والموت، اللذة والعذاب. يكفيك أن ترى هوسهم الطاغي بالرياضة والموسيقى ورقصة التانغو الشهيرة.
الجنون بعالم كرة القدم هنا قصة معروفة. من لا يعرف بلاد أنجبت مارادونا وميسي؟. في بيونس آيرس فقط 24 فريق كرة قدم. أشهرها بوكا جونيور و ريفرت بليت بالطبع الذي حاز على بطولة الدوري هذا العام.

في مباراة نهائي بطولة أندية دوري الدرجة الأولى الأرجنتيني لكرة القدم بين فريقي ريفرت بليت وكليمكس يوم الأحد 18 مايو الماضي كان الملعب يضيق بكامل سعته. سبعون ألف مجنون يرتون القمصان البيضاء والحمراء يدعمون فريق ريفر بليت المتصدر.
كان هناك نصفهم خارج أسوار الملعب ولا يملكون تذاكر النهائي الكبير، وكانوا يتصرفون بجنون وشغب واضح من أجل الدخول وتشجيع فريقهم المفضل. كانت قوات الأمن بالمرصاد ونجحت في مرور يوم تتويج بطلها بخمسة أهداف نظيفة الى برّ الأمان.
 
التانغو..
في المقابل، يمكن القول أن ثنائية الموسيقى ورقصة التانغو هي روح الأرجنتين في تلخيص بسيط!.
رقصة حبّ نبتت قديما بين أقدام فقراء من ذوي البشرة السمراء. التانغو لم تك قط ترفا للجميع (كما يحدث الآن) بقدر ما كانت سجلا يحكي جانبا من قصة السكان الأوائل مع ذلّ الجوع والخوف والحرية.
رتم حركاتها الإفعوانية السريعة لا يمكن تفسيره بغير رغبة جامحة لعاشقين قررا الهروب (روحيا) من واقعهم البائس. ربما كان شعارهم يومها أن أي أرض تسقيك كأس العبودية المؤلمة يمكنك الرقصّ عليها لتشعر ولو لوهلة بطعم الحرية!.
التانغو.. ابتداءً وفي النهاية، هي المثال الحيّ لمعنى الشراكة بين رجل وامرأة يجمعهما حب وثقة لا أكثر. وإيمانا معا أن الحياة أبدا ليست شيئا مفردا، ولا تستقيم بلا شريك يفهم سكناتك قبل حركاتك في احترام متصل.
يكفي أن تشاهد عرضا مسرحيا غنائيا راقصا لن تنساه ذاكرتك في قاعة تانغو بورتينو على ناصية ميدان 9 مايو الشهير بمسلته المصرية الشاهقة لتعرف ماذا تعني رقصة التانغو في حياة مجتمع الأرجنتين.
خلال لوحات المسرحية الغنائية الراقصة ستفهم معنى الحياة لهذا المجتمع من دون أن تخفي عنك أي تفصيل. موسيقى تحرّك كل مشاعرك العميقة لتفهم حقائق جديدة عن معنى الألم والفرح، الهدوء والشقاوة، الحب والكراهية، الجمال والبشاعة وكل شعور بالحالات الإنسانية وهي تترجم أمام ناظريك في رقص إيقاعي مبهر وجميل، قبل أن تترك وحيدا لتجيب عن لغزها الكامن: ما سرّ هذه الرقصة التي تسقيك كؤوس فرح يلامس شغاف الروح، ثم ينتكس رويدا إلى حزن يقطع نياط القلب ويدمي المشاعر؟.
 
 
سياحة واقتصاد
الحكومة الأرجنتينية التي ترأسها حاليا السيدة كريستينا إليزابيث فيرنانديز قررت المضي خطوة إلى الأمام في جذب حصة من السياح العرب خصوصا من الخليج العربي، ضمن خطة شاملة لتحسين موارد البلاد الاقتصادية بعد تعثرها في السنوات الأخيرة.
خلال العقد الماضي نهضت الأمة الأرجنتينية، وصنعت فورتها الاقتصادية، حتى باتت عملتها الرسمية (بيزو) آنذاك تقارب سعر صرف الدولار الأمريكي. وبفضل ذلك نظر إليها كواحدة من نمور أمريكا اللاتينية، وحازت عن جدارة إلى الآن مقعدا في قائمة أكبر عشرين اقتصاد في العالم. اليوم من البديهي أن تنظر إلى نتائج تلك النهضة في العمران والرفاه المتمدد والملموس على أجزاء واسعة من العاصمة على الأقل.
متوسط الأجور للموظفين هنا لا يقل عن 400 دولار شهريا، ويمكن القول أن هناك هوة ملموسة بين طبقات المجتمع من ناحية الثراء ورغد العيش خلال مشاهداتك اليومية. وعندما تتقاطع جولاتك مع الضواحي الشعبية للعاصمة وأحيائها الخلفية والفقيرة، تكاد أن تقبض قلبك من تسارع وتيرة تآكل الطبقة الوسطى لتصبح هنداً جديدة في قاع أمريكا الجنوبية.
سعر الصرف الرسمي الآن يعادل 8 بيزو أرجنتيني مقابل كل دولار أمريكي واحد. وفي السوق السوداء يمكنك صرفه مقابل 11.5 بيزو. وهذا الفارق في سعر الصرف سيجعلك تنظر إلى أن كل ما قمت بشرائه من منتجات محلية وجيدة الصنع كانت بسعر مقبول ومنافس.

كالافاتي أنف العالم
في مدينة كالافاتي الصغيرة، بمقاطعة بتاغونيا الجنوبية (3 ساعات ونصف بالطائرة) يمكنك أن تمارس كل الرياضات الشتوية اعتبارا من شهر يونيو الجاري. هذه المدينة الصغيرة التي لا يسكنها سوى 18 ألف نسمة في الصيف تكاد أن تكون على حافة الأرض. تبعد نحو 3 آلاف كم فقط عن قارة أنتاركتيكا القطبية، وبها متحف تفاعلي كبير عن عالم الجليد، وأسواق شعبية وتقليدية، وأكثر من 25 ألف غرفة فندقية لاستقبال سواح الشتاء.
في منتزه (ناشيونال بارك ديكليشرز) ستقف على واحد من أجمل مناظر الطبيعة في قول واحد. كان رفقاء الرحلة يسألون المرشدة السياحية نتاليا إسكوبار وأسنانهم تصطك من البرّد عما إذا كانت جبال الجليد الذائبة التي يشاهدونها حقيقة أم خدعة فوتوشوب. كانت تضحك وهي تجيب اخلعوا قفازاتكم لتعرفوا الحقيقة.
كانت السفينة تقترب من جبال الجليد التي تتساقط أطنان من حوافها بدوي هائل وساحر في آن على مياه البحيرة المثلجة. ليس هناك على الأرض هواء نقي ومفعم بالأوكسجين كالذي تتنفسه هنا. وسيغمرك شعور طاغ بالزهو أن أنفك المتجمد هو أول من يستنشق الرياح النظيفة القادمة من أقاصي القطب الجنوبي للأرض.
... في طريق العودة، ستتذكر دوما، أن الأرجنتين بالفعل، أكثر من مجرد كرة قدم!.
 
الى لقاء!..