الثلاثاء، 3 فبراير 2015

جمال خاشقجي.. رجلّ الأقنعة ومهندس المشاكل الرابحة!

بروفايل


يستحيل أن يخرج من تحت دوائر الضوء والجدل حيثما حلّ وأينما كان. فلا وجود لكلمة "الظلّ" في قاموس حياة هذا الصحافي المحترف ذي البنية القوية والفارع الطول، المنطوي على أغزر تجربة عملية مرّ بها رئس تحرير في تاريخ الصحافة السعودية الحديث في قول واحد.

بعد نحو 10 ساعات فقط من إطلاق قناة "العرب" التي طال انتظارها، أصدرت السلطات البحرينية أوامرها بوقف بث برامج القناة الإخبارية الوليدة، لتصبح عنوانا لأحاديث الشارع العربي من المحيط الى الخليج. خرج المراقبون والعامة ليدلوا بدلوهم تجاه مهندس القناة ومديرها العام جمال خاشقجي ليضعوه وقناته الوليدة حيث يُحب دوما في قلب معادلة الضوء والظل!.

قليلون الذين أخذتهم الرأفة في وجه قناة لم تكمل يومها الأول في عالم الفضائيات العربية، وصنعوا لها مهدا ملائكيا يليق بطفلة بريئة، وبرروا لها صرخة الحياة الأولى حتى ولو كانت على لسان جمعية الوفاق البحرينية المعارضة. بينما انتظم المتربصون بها وبمديرها ـ صديقهم القديم ـ لنصب أعواد المشانق، وتقديمه بصورة مفزعة كرؤوس الشياطين!.

لم ولن يغفروا لجمال خاشقجي أن يطلّ عليهم من جديد عبر برزخ إعلامي مختلف هذه المرّة ، ليقود قناة تلفزيونية تخاطب مشاهديها بالصوت والصورة، لا بالحبر والورق كما تمرّس طوال حياته العمليّة. وطفقوا يرمون الحجارة والعصي في تحديه الجديد والجسور، الذي أعد عدته لها ـ خلف كواليس الصمت ـ منذ يوليو 2010 وحتى اليوم!.

عفوية جمال خاشقجي وجبلته النازعة إلى البياض ومحبة الناس، تفسر أحيانا على أنها ضرب من الحيلة والمكر والدهاء، والسبب الظاهر أن كل من عرف "أبا صلاح" يحتار في تصنيفه، وتوصيفه، والمربع الذي يقف عليه!.

في السعودية عادة، لا مكان لغير المنتمين. وتبعا لذلك يتوجب على كل شخصية اعتبارية أن تظهر أمام الجميع مناط ولاءها، وتحت أي عنوان واضح يمكن تصنيفها، ليتم التعامل معها وفقا على أدبيات هذا التصنيف ومثالب ذاك التوصيف، لتدفع الثمن دوما من المهدّ وحتى اللحدّ!.

منذ ثمانينات القرن الماضي وهو يُطارد ويوصم دائما بصفة غير مستساغة في "مكارثية" المجتمع المحلي؛ فكان أول من حمل وصف "الإخونجي" في جيل الصحافيين الشباب آنذاك، قبل أن تتوالى تهم التصنيفات الجاهزة التي يطلقها عليه خصومه حينا، وبعض "أعدقاء" المهنة في أحيان أخرى، غبطة به تارة، و غيرة منه في تارات أُخر.


للتذكير، كان جمال خاشقجي قد إجترح عبارة ملغومة، حين سطر بيده ظهيرة يوم 18 فبراير 2011م في ما عرف بيوم (جمعة النصر) تغريدة على صفحته في تويتر قال فيها «الله أكبر.. ما أعظم الإسلام حرا قويا، شاهدوا الشيخ القرضاوي من ميدان التحرير على القناة الأولى المصرية، حتى ندرك حجم التغيير الذي حصل»!.

لم يفرغ الناس من صلاتهم إلا وقد طيّر النافخون في الرماد رسائل نصية، ورفعوا عشرات التغاريد في صحائف "تويتر"، ومثلها في صفحات "الفيس بوك"، ونشروها عبر الأفاق تبشر بعودة "الشيخ جمال إلى صباه!" وأنهم، أخيرا، باتوا يملكون الدليل الثابت والخيط والمخيط، تأكيدا على عودته القطعية إلى أحضان التنظيم العالمي للإخوان "المسلمون".

يقول جمال: "المؤكد أن هذه الرسائل تكشف نوايا خبيئة في دواخل من كتبها لا طيف المعاني التي أوحت بها تغريدتي البريئة". وفسر مقصده؛ بأنها تغريدة تقول وبكل إنصاف "إن ما شاهده العالم في ذلك اليوم غريبا، بل هو المستحيل بعينه. الشيخ الإخواني الشهير يوسف القرضاوي يعود، بعد حظر طويل، إلى مصر حسني مبارك والحزب الوطني، ليتولى إمامة مليوني مسلم من شباب وشابات ثورة 25 يناير ويخطب بهم خطبتي الجمعة في ميدان التحرير بالقاهرة، ثم يظهر كل ذلك على الهواء مباشرة عبر شاشة تلفزيون القناة المصرية الأولى!".
أضاف: إذا لم يكن هذا أمرا غريبا فما هو تعريف معنى الغرابة إذا؟!.

بعد أيام انبرى له رئيس تحرير صحيفة الشرق الأوسط ليشهر في وجه صداقتهما القديمة كرتاً احمر، ليكتب فيه مقالا ناريا في صفحة الرأي الدولية، وأمطره بوابل قوامه 350 كلمة كلها من العيار الثقيل، ردا على تغريدته التي لم يتجاوز عدد كلماتها 23 كلمة فقط!. 
كان مقالا ثأريا بامتياز، وصف فيه الكاتب صديقه القديم بالمخادع، المتحول، والمزايد. وزاد أن تغريدته محض "حديث مقاه" من رئيس تحرير لمرتين، وقيّم عمل زميله في الصحافة بأنه تخصص خلالها وتحت رداء سياسة دعم الإصلاح بـ ” التهجم على المؤسسة الدينية في السعودية، وتصيد رجال الدين الواحد تلو الآخر".

باختصار، جمال خاشقجي عند جناح الأصوليين هو رجل علماني بنمرة واستمارة، وهو عند رهط الليبراليين حصان طروادة الذي يخفي أجندة حركات الإسلام السياسي اينما حلّ وحيثما ذهب. لكن المفارقة أن جناح الأصوليين ورهط الليبراليين يتفقان معا على توصيفه بأنه (جاسوس قديم) ورجل مخابرات برتبة نقيب!.

والأخيرة ألصقت به، بعدما عرف وأشتهر لاحقا عن علاقة متميزة تربطه برئيس الاستخبارات السعودية السابق الأمير تركي الفيصل، الذي ظل على الدوام مؤمنا بجمال وقدراته، وكان يرعاه دوما كلما كشرت الصحافة أنيابها عليه. وما زاد من تعميق هذه الصفة عندما أختاره الأمير كمستشار إعلامي خلال تسلمه حقيبة سفارة خادم الحرمين في واشنطن، وقبلها في العاصمة البريطانية لندن.

ربما يمكن القول هنا، أن أكبر شهادة تنزيّه للصحافي هو أن يُشعر قرائه دوما عندما يكتب لهم عن قضية ما أو جماعة ما، الخبر أو القصة أو المقالة وكأنه منتميا إلى جسم ومرجعية من كتب عنهم. كان جمال خاشقجي يفعل ذلك للدلالة على سعة ثقافته، وغزارة معلوماته، ووفرة مصادره في هذه المنظومة أو تلك، بصرف النظر عن مشاجب الأقنعة والتوصيفات التي تنتظره.

لم يكن طريقه في بلاط صاحبة الجلالة مفروشا بالورود والبساط الأحمر، تماما كما وضح على أول خطوة في طريقه (حتى الآن) في سماء القنوات الفضائيّة بعد وقف بث "العرب" في ليلتها الأولى. فالرجل موعود بكؤوس الخيبة المرّة، ودوما ما تصبّ له في أغلى لحظات الفرح والحبور!.

تجربته مع الحبر والورق كانت مثيرة وشائكة على الدوام، لكنه كان يمضي بثقة من بين كل الحجارة والعصي التي تعرضت لها عجلة طموحه لتعطيل سرعة وصوله إلى مناصب أعلى مستحقة. كان دائما ما يحدد أهدافه بدقة، ولا يخطو خطوة إلا وهو على يقين تام أنه يقف فوق أرض صلبه. صحيح أنه كان يبدو على الدوام كرجل "مجدّ دؤوب ذو هدف"، لكنه وللإنصاف، لم يجلس على كرسي في بلاط صاحبة الجلالة إلا وكان هو أكبر منه بلا جدال.


تولى جمال خاشقجي ( 57 عام) منصب رئاسة التحرير 3 مرات. الأولى بالنيابة قرابة العام (صحيفة المدينة العام 1412هـ ـ 1992)، والثانية خلفا للدكتور فهد العرابي الحارثي كرئيس لتحرير صحيفة "الوطن" في مطلع العام 2003م ولم يستمر أكثر من 52 يوما فقط قبل أن يبعد نتيجة حزمة مقالات جريئة ومواضيع ساخنة، وكاريكاتيرات لاسعة، أهمها مقال شهير للكاتب خالد الغنامي مسّ فيه طوطم السلفيين وشيخهم "ابن تيمية"، ليعود في المرة الثالثة والأخيرة إلى كرسي الوطن الساخن في بداية الربع الثاني من عام 2007م قبل أن يقدم استقالته رسميا في مايو 2010م إثر ضربة خطافية (ملتبسة) وجهت له من تحت حزام صفحة الرأي في الجريدة التي يرأس تحريرها!.

يومها؛ قام رئيس قسم الرأي الجديد في مقر الصحيفة بجدة الذي استقطبه من صحيفة عكاظ قبل أسابيع "لغاية في نفس جمال" لينشر في قلب صفحات الراي مقالا جريئا ومتعدد القراءات للكاتب إبراهيم طالع الألمعي أثناء غياب رئيس التحرير في مهمة خارجية للمشاركة كعضو لجنة التحكيم في حفل توزيع جائزة دبي للصحافة العربية 2009 في الأمارات العربية المتحدة.

حينها فسر القراء المقال المثير بعنوانه العريض والصارخ (سلفي في مقام سيدي عبدالرحمن) بأن كاتبه بالغ عند المقارنة، في تمجيد طرق التصوّف وأتباعها على حساب جهود "المديٌنة" ومرجعية رجالات الأصولية السلفية في الدولة السعودية. وخاض الجميع في تفاصيل قصة طويلة محفوفة بالأسرار والقراءات المختلفة إلى الآن.

كان أكثر المتخوفين من تبعات نشر المقال ومن ثم الاستقالة، هم العاملين في بلاط صاحبة الجلالة الذي قرأوا في خروج جمال بهذه الصورة زلزالا "هز عرش الصحافة المحلية". وأنه قرار لا ينسجم مع معطيات عصر الإعلام الجديد، وإيذانا بدخول الصحافة الورقية في نفق مظلم، خصوصا أمام منافسة غير متكافئة مع الصحف الإليكترونية، التي تقتات عليها ولا تزال.

كثيرون لخصوا القصة بابتسار مُخلّ، وأن جمال خاشقجي راح ضحية (نيران صديقة)، وأن الطريق إلى استقالته كان مدبرا وممهدا ومستغلا ببشاعة لنواياه الطيبة التي عرف بها مع الجميع طوال مسيرته الصحافية. على كل حال، لم يكن أبا صلاح بريئا في بعض قراراته وتعييناته الإدارية، وحصد ما زرع.

كان يعتقد، وهو ما ثبت خطأه مرارا، أنه لا مناص من التعامل مع الواقع ببرغماتية في لعبة شطرنج رئاسة التحرير. وأنه كي ينجو ومن معه، لابد من الرضوخ لخيارات بطعم التنازل، علّها أن تكون سلالم قصيرة ربما توصله يوما ما إلى قلوب (من يحبهم دوما، ولم يحبوه قطّ!). وأصرّ في كل مرّة على الدخول في لعبة البيضة والحجر، وكان يتجاهل عن عمد وسابق إصرار أنه سيكون أكبر الخاسرين في هذا اللعبة غير المتكافئة.

والحق لم يعرف لجمال أعداء كثر في أوساطه الإعلامية، وكان المقربون منه دوما يتفيؤون ظلال نبله وإنسانيته وحسن خلقه، فضلا على التعلم من خبراته وتجربته الصحافية الغزيرة. في المقابل كان أعدائه المعروفين من الشجاعة بمكان، ويحسب لهم أنهم واضحون وبلا أقنعة، ومعروفون دوما بالإسم والصفة ومحل الإقامة!.

بعد نشر مقال الألمعي، وفي اليوم التالي مباشرة عاد جمال سريعا من دبي إلى جدة ليحاول ترميم ما يمكن ترميمه من تبعات النشر. كان واثقا أن الشق أكبر من الرقعة هذه المرة أيضا، لكنه كان يأمل أن تتأخر لحظة إخراجه من حظيرة رؤساء تحرير الصحف السعودية 24 ساعة فقط. كان يومها مشغولا بتهيئة نفسه لحفل زواجه الثالث على الدكتورة آلاء محمود نصيف سليلة البيت السلفي في الحجاز، وابنة الداعية الحنبلية الشهيرة فاطمة نصيف.

بعد أدائه صلاة الظهر رنّ هاتف مكتبه الفسيح في مقر الصحيفة بالطابق الثالث لمركز المحمدية بلازا في جدة. كان على الطرف الآخر مسئولا كبيرا قال له باختصار " قدم استقالتك فورا، ولننتظر بعدها ماذا سيحدث". بالكاد وضع جمال سماعة الهاتف، ورفع بيد مرتعشة كوب قهوته المفضلة لفمه، كان السائل الأسود ينساب على أعطاف ثوبه الأبيض من دون شعوره. وكان لسان رماد سيجاره الكوبي يدفن آخر خيوط دخانه الأبيض في منفضة فضيّة اللون. مسح بمناديل مبللة حرارة وحبيبات القهوة التركية من كم ثوبه وعبه، قبل أن يُمسك بلوح الكيبورد ليباشر كتابة حروف الاستقالة المطلوبة، قبل أن يتولى سكرتاريته طبعها وإرسالها إلى رقم الفاكس المنتظر.

خرج جمال إلى غرفة الأخبار ودلف سريعا إلى مكتب رئيس قسم الرأي الجديد الذي هبّ واقفا لاستقباله بخجل مصطنع. قال له بأدب جم: "ماذا فعلت بنا يا فلان!". أجابه " كانت زوجتي مريضة في المشفى، وقرأت ليلتها المقالة على عجل، وأعجبني سبك لغتها وبنائها اللغوي الأخاذ". قبل أن يضيف: "اعتذر يا أستاذ جمال عن أي ضرر ألحقته بك أو بالصحيفة، وأعرض الآن استقالتي الفورية إذا كان في ذلك حلا للمشكلة". قال له قبل أن يغلق باب المكتب الزجاجي " سبق السيف العذل، قدمها لرئيس التحرير الجديد"، ثم مضى ليلحق موعدا مسبقا في صالون للحلاقة الرجالية وتجهيز العرسان!.

في المساء، أنتشر خبر قبول استقالة جمال خاشقجي ليتفرغ لأعماله الخاصة، كان أول من بث الخبر الصاعق جوال صحيفته "الوطن" في قناة الأخبار العاجلة، لتنقل كل الوسائل الإعلامية عنه النبأ اليقين!. بعد ساعات تحولت ساحة بيت نصيف التاريخي في وسط البلدة القديمة إلى محجة للمحبين والأقارب وزملاء الحرف والمهنة. كان الجميع حريصا على حضور حفل زفاف زميلهم أبا صلاح، واحتارت الألسن، واضطربت المشاعر فيما إذا كان من اللائق المبادرة بالتهنئة بالزفاف، أم تعزيته في فقده وظيفته ولقمة عيشه.

كانت عناقيد الأضواء تجلل المكان، وانتشرت سيارات الغولف الكهربائية بين الأزقة والطرقات المفروشة بالسجاد الأحمر لتحمل المزيد والمزيد من المحبين والمهنئين وعائلاتهم لمقر العرس الكبير، وسط زغاريد مكتومة تنساب بصوت خفيض من خلف رواشين الحرّملك. وواجهت المزينة ومساعداتها أصعب تجربة مررن بها في حياتهن المهنية. كانت العروس تُغرق كل مساحيق التجميل والكحل من فرط بكائها وحزنها على ما وقع لعريسها في ليلة عمرها. كانت تخشى كعروس غائلة الألسن وما تخفي الصدور، والربط ما بين ليلة اقترانها البهيج؛ بيوم تسريح زوجها من بلاط صاحبة الجلالة. كان شعورا صعبا واجهه العروسان معا كلا بطريقته، وحزنه الخاص.

في المقابل، حاول الأخوة والأصدقاء وزملاء المهنة أن يخرجوا العريس من بئر حزنه الباطن. كانت شهادة جميع من حضر حفل الزفاف بأن جمال بدا متماسكا الى حدّ ما، وان البريق اللامع في عينيه فسر على قولين؛ منهم من قال إنها دموع فرح حبيس. ومنهم من صرح بأسى ظاهر، أنه بقايا سائل ترح وحزن فاض من القلب ليغرق بياض العين حزنا على نهاية حلمه الصحافي.

وأكد أصحاب القول الراجح؛ أن مشلح العريس المقصب بخيوط الذهب لم يسقط عن متنه غير مرة أو مرتين، وأنه شارك الحضور برقصة العرضة السعودية واستعرض بالسيف تارة وبالغمد تارة، كما أنه لم يجفل في محاورة أنداده بالعصي الخشبية المزركشة، والدوران حول النار في رقصة المزمار الحجازية. كانت ليلة أسطورية بكل ما تحمله الكلمة، كما وصفها الجميع.


خلال الـ 72 ساعة التالية خرجت التحليلات وظهر المفسرون بروايات متباينة، بعد أن شاع نبأ اهتمام الامير الوليد بن طلال بخدمات جمال خاشقجي وضمه الى مجموعته الإعلامية، وهو ما تأكد لاحقا. منهم من قال أن الخاشقجي لابد وأنه كان في حياة سابقة، مهندسا معماريا بامتياز، فالرجل يجيد حتى معادلات تحسين المساقط، وأنه كان يعرف جيدا طرق رسم السقوط إلى أعلى!.

فيما أقسم آخرون أنه تعرض لركلة لاعب حرّيف، أخرجته من مربعه القديم، إلى مربع كبير تم إعداده له بعناية منذ زمن، إلى حين تأتي فرصة مناسبة. أما وقد حانت الفرصة فإن المربع جاهز للحبيب المنتظر. وهناك من بين أصحاب الرأي التقليدي من ردد "يالثارات لحوم العلماء المسمومة"، وأن "العين بالعين، والسن بالسن، والبادئ أظلم!"، قبل أن يخلصوا إلى تأكيد أن المؤسسة الدينية نجحت في إبعاد أحد أكبر مناوريها في تاريخ الصحافة الورقية".

لم تنته القصة بخروج جمال خاشقجي من باب سدّة الرئاسة في أشهر الصحف الورقيّة، ليعود مجددا من نافذة قناة العرب الفضائية. فلم يبرح قلمه يسطر مقالاته خلال سنوات الانتظار بنفس الطعم والنكهة المعروفة عنه في صحيفة الحياة السعودية، بل وأخرج كتابا يتفق وتخصصه الجامعي ( (Business adminstration بعنوان "احتلال السوق السعودي" قدم فيه رؤى جريئة وحادة لإنقاذ الشباب من براثن البطالة، وتحفيزهم لاستعادة لقمة عيشهم من الوافدين الأجانب الذين سيطروا على مفاصل سوق التجزئة في الاقتصاد السعودي.

لا يُعرف الكثير عن تجربته التلفزيونية الجديدة، وأسرار استعداداته لها. وحتى لو تجاوز أزمة عسر الولادة البارحة، فالمؤكد أن في انتظاره رحلة كسر عظم بدأت ولن تنتهي في المدى المنظور. فقناته الإخبارية الجديدة، كما يقول جمال إنها "تحاول أن تأخذ مكانا بين يمين قناة الجزيرة، ويسار قناة العربية"، وهو خيار من الصعب تصور نجاحه سريعا، دونما إعداد خطة برامج مبتكرة، تراعي الواقع الجديد، وتحترم التنازلات المنتظرة، وفوق ذلك ترغم المشاهد على تحريك "الريموت كونترول" لاختيار مشاهدة قناة العرب الخضراء!.

القريبون منه، يعرفون عن جمال خاشقجي بأنه كان "أغرب ربّ عمل يمكن أن تعمل معه. ويتصرف أحيانا عند تشكيل فريقه الصحافي وكأنه حاطب ليل". اسلوبه في الإدارة يقوم على قناعات ومعادلات حسابية لا يمكن لغيره فهم مآلاتها ونتائجها المنتظرة. وعندما يشعل سيجاره الكوبي ويطلق عنان أفكاره لتغرق في سحابة الدخان الكثيف يبدو كإداري محنك، يعرف تماما ماذا يريد وكيف يفعل ذلك بنجاح أكيد. لكنه عندما يفكر بعاطفة وبرغماتية، يصبح سيّد القرارات الخاطئة ولا جدال.

اللافت في أسلوبه، وبشكل واضح، أنه يجيد صناعة مشاكله بيديه في شكل هادئ ومدروس. ثم لا يلبث أن يحول مشاكله التي أتقن صناعتها إلى أوراق تفاوض يطرحها لاحقا على طاولة رؤسائه، ليشعرهم أنه على أتم الاستعداد للتخلص منها مقابل حصوله على مكتسبات جديدة تعزز أسلوبه الإداري الخاص. كان جمال خاشقجي على الدوام يصنع مشاكله بيده، ولا يسمح لأحد أن يفعل ذلك معه. والشواهد كثيرة!.

كصحافي، ليس هناك من يفري فريه رؤية وأسلوبا وطريقة تنفيذ لأصول المهنة في شكل محترف. وهو يجيد كل أشكال العمل والكتابة الصحافية؛ خبرا وتقريرا وحوارا وكتابة مقال، وباللغة الإنجليزية أيضا. كما أنه لمن خالطه يعرف هوسه الكبير بمتابعة كل جديد في تقنية وتكنولوجيا الأجهزة الحديثة وبرامجها وتطبيقاتها. الى جانب أنه قارئ نهم وواسع الإطلاع والعلاقات، ويصل إلى معلومات وأخبار قلّ أن يصل إليها صحافي عربي فضلا عن نظيره السعودي من داخل الدوائر السياسية أو الاقتصادية في الأنظمة العربية والإسلامية؛ وبالتأكيد في بلده السعودية أولاً.

خلال زيارة الملك عبدالله بن عبد العزيز (رحمه الله) إلى لندن في صيف العام 2008 قدمه الملك الراحل في حفل الاستقبال بقصر بكنغهام إلى ملكة بريطانيا بجمال خاشقجي أهم صحافي سعودي. وبقدر فخره بهذا الوسام الملكي أزعجه ردّ الملكة إليزابيث الثانية بقولها ( أنذر جورنا ليست!).

بعد تولى الملك عبدالله مقاليد الحكم في البلاط الملكي السعودي العام 2005، كان جمال خاشقجي يحصد ثمرة تبنيه للمواقف الإصلاحية التي أتخذها الملك إبان ولايته لعهد الملك الراحل فهد بن عبد العزيز. كان معجبا بالقرارات التي كان يتخذها الملك غير المتوج، وكان بحق الترجمان الإعلامي الأكثر إيمانا والتزاما بشرح الخطوات الإصلاحية ونقل رسالة الملك الصالح (رحمه الله) ليس في الداخل وحسب بل وللعالم أجمع.
    
جوهرة تميزه انه كان المراسل الحربي والصحافي المتجول الأكثر كفاءة وعطاء وتجربة في الصحافة السعودية. وتبلورت شهرته خلال تغطيته حرب أفغانستان والجهاد الإسلامي فيها. لم تكن أول حرب قام بتغطيتها كمراسل ميداني نشط. سبقتها حرب الجماعات السلفية في شرق الجزائر، ولم تكن الأخيرة أيضا، فقد تابع نشاط المجاهدين في السودان والهند وباكستان وبعدها في الشيشان والبوسنة، ومن ثم حرب تحرير الكويت.

ولولا تقلده مناصب قيادية في الصحف المحلية والدولية، والآن كمدير لمحطة العرب الفضائية لكان من الطبيعي مشاهدته بجينز أزرق وجاكيت كاكي اللون، وهو يجري بحذاء رياضي أبيض اللون في ساحات النقاط الساخنة محليا وعربيا وإسلاميا ودوليا أيضا، بحثا عن قصص صحافية كبرى ومثيرة. فالرجل لا يجد نفسه إلا في مثل هذه المناخات التي تظهر الصورة الحقيقية لهذا الصحافي المعتق، والمهووس دوما بالمعلومات، وقراءة ما بين السطور، للخروج بتقارير غنية ومشبعة لنهم القراء المتعطشون لما يكتب.

جمال خاشقجي في أفغانستان، صحافي أم مجاهد؟!


في حوار صحافي نشر في جريدة الشرق الأوسط العام 2006، تحت عنوان (جمال خاشقجي من يسار حكمتيار إلى يمين تركي الفيصل) سأله محاوره يومها سؤالا مستفزا وخارجا عن النصّ (لم تنشر إجابته)، وهو يعرض عليه صورة شهيرة له في أرض معارك بيشاور مرتديا الزي الأفغاني ويحمل بندقية كلاشينكوف روسية الصنع: " جميعنا يعرف أنك غمست قلمك في حرب الأفغان. فهل غبّرت قدماك بالجهاد معهم وحملت السلاح حينها ضدّ الروس؟!". فأجاب بحزم " لا والله، ربما هممت، لكنني لم أفعل قطّ". أضاف " كنت صحافيا 100% ولا أزال ملتزما بأصول المهنة ومعاييرها".

في تحقيق صحافي لمجلة "المجلة" عن من يقف وراء غياب الصحافي المتخصص في الصحافة السعودية (لم ينشر أيضا) أنجز بعد تحرير الكويت العام 1992م أجاب الخاشقجي وكان يومها نائبا لرئيس تحرير صحيفة (عرب نيوز) الصادرة عن المجموعة السعودية للأبحاث والتسويق على سؤال موضوع التحقيق: لماذا لم تكرس تجربتك كمراسل حربي بعد أن توليت منصب رئيس تحرير أكثر من صحيفة محلية؟. أجاب بقوله "لم أجد الشغف في الصحافيين الجدد، وفي المقابل لم تكن الصحف جاهزة لإنفاق الأموال اللازمة لهيئة التحرير وتدريبهم لهذه المهمة، وتغطية مثل هذه التقارير المكلفة ماديا".

يعترف جمال خاشقجي لاحقا بأن جهاد الخازن رئيس تحرير صحيفة الحياة آنذاك "كان يمنحني الصلاحية والدعم السخي لأن أتجه إلى أي منطقة ساخنة أختارها في العالم الإسلامي، لأبعث إليه التقارير والصور والخاصة بصحيفتي الورقية".


في أواخر السبعينيات أنخرط الطالب جمال أحمد خاشقجي في عمل جانبي بمركز المعلومات في صحيفة عكاظ السعودية. لاحظ مدير عام المؤسسة حينها السيد إياد مدني (الذي تسلم لاحقا حقيبة وزارتي الحج والثقافة والإعلام) أن هذا الشاب يعد تقارير المعلومات المطلوبة منه بشكل ملفت. قال له "يا بني جرب أن تخوض يوما العمل الصحافي". وكانت تلك الكلمة؛ الشرارة التي أطلقت الحلم!.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

شاكر ومقدر مروركم وتعليقكم