الجمعة، 4 ديسمبر 2015

نقاش هادئ حول لماذا ينبغي علينا حفظ موقع المولد النبوي وأمكنة مكة النبوية؟

صورة تاريخية لمكتبة مكة المكرمة وتبدو النافذة الأرضة
 في يمين الصورة للغرفة التي شهدت موقع المولد النبوي الشريف 
* عمر المضواحي

بعد نحو 500 قراءة لموضوع تدوينة " مشاهدات وملاحظات على موقع المولد النبوي في مكة المكرمة" وصل للمدون تعليق عبر الواتس آب اشتمل على سؤال مهم. وآثر المدون الإجابة عليه في تدوينة مستقلة، كونه وجد في التعليق فرصة إهتبلها ليوضح فيها رؤيته الخاصة بعد مناقشات حولها مع أساتذة أفاضل، رغبة في الوصول الى التثبت قبل طرح جوابا للسؤال الذي وصل في ثنايا التعليق الذي أنشره هنا كما جاء وبالصيغة الحرفية التالية:

" التسلل التاريخي يدل أنه ليس هناك أهمية خاصة لموقع مولد النبي عليه السلام، فالنبي عليه السلام لم يشتريه من عقيل ولم يطلب أن ينزل فيه عندما دخل مكة. وبعد وفاة النبي عليه السلام الصحابة عليهم السلام لم يبرزوا الموقع ولم يجعلوا له أي اهمية خاصة، ولا حتى حاول أن يسكن فيه أحد منهم!!. الى أن وصلنا الى للدولة العباسية مو حتى العثمانية! واجتهدت زوجة خليفة وابرزت الموقع وعملها ده قد يكون لها أو عليها، فليش احنا بنحاول نبرز شيء لم يميزه النبي عليه السلام واصحابه!!!!!." أ.هـ.

أؤكد هنا أولا على حقيقة لا تخفى على الجميع وهي أن المدون مجرد مراسل صحافي مهتم بقضايا مكة النبوية، وأن رؤيته التالية، أستفادها من نقاشات مع باحثين فضلاء، وافقت أقوالهم حفظهم الله مع ما يؤمن به حيال موضوع إهتمامه الصحافي، والحق أنهم امتنعوا عن كشف هويتهم العلمية وصفتهم الاعتبارية كون الموضوع لا يمكن طرحه بدون اطالة وتوثيق من المصادر العلمية والتاريخية المعتبرة مع سبك عبارة في مبحث خاص كما ذكروا.

عليه، أقول مجيبا في عجالة على التعليق والسؤال بالردّ التالي:
إن ربط الاهتمام بالأماكن النبوية استنادا على الخوف من جهة أو فريق ما، وأنه ضدّ هذا التيار أو مع ذلك التيار، هو مشكلة قائمة لوحدها. فالمسألة هنا هي للتعريف برؤيتنا الخاصة تجاه هذا الموضوع، وهي مسألة ندين الله بها قبل كل شيء.

علينا أولا طرح السؤال: هل هذه المسألة مباحة في شرعنا وواجبة، أم أنها عمل غير مباح في شرعنا وليس بواجب؟. إخواننا في الفريق الآخر يعتمدون على نصوص تبرر دعواهم بعدم الحفظ، في المقابل نزعم أن لدى الفريق الآخر نصوص تبرر دعواهم بمشروعية حفظها والحفاظ عليها، وهي نصوص خاصة بالمكان، ونصوص أخرى تشير الى العمل نفسه. وهل يجوز لنا أن نفعل كذا وكذا أو لا يجوز. وهل هذا هو المكان أم هو ليس المكان. وهذه نقطة الخلاف الأولى والأساسية مع الفريق الآخر.

مناط المسالة إذن هي: هل هذا جائز في شرعنا أم غير جائز؟. الرسول  عند دخوله المدينة المنورة ترك ناقته القصواء تختار موقعه الذي ينزل فيه، فعل ذلك حتى يخرج من الحرج ومطالبة الانصار بالنزول في منازلهم. فجاء مكانه في المدينة باختيار الهي، أي أن الله سبحانه وتعالى في أقداره ومشيئته يفضل أماكن عن غيرها لحكمة يعلمها هو سبحانة. وفي رحلة الاسراء والمعراج إضاءات يمكن الاقتباس من نورها لتقريب فهم المسألة. فقد قال جبريل للنبي : صلي هنا، حيث صلى الأنبياء، وأربط فرسك حيث ربط الأنبياء.. الخ.

أيضا؛ هناك مواقع وأمكنة في بيت الله العتيق أشار القرآن الكريم صراحة الى تعظيمها، ومنها مقام ابراهيم عليه السلام حيث وقف عليه حين شروعه ببناء الكعبة المشرفة. كما أن البيت العتيق يشتمل الى اليوم بموقع مشهور هو حِجر اسماعيل عليه السلام، وفي مكة أيضا مواقع تنطق بتاريخ أنبياء ومراقدهم كمسجد الخيف في المشعر الحرام، وبئر طوى الذي أغتسل فيه سبعين نبيا، فضلا على أن جميع المشاعر المقدسة تقف وراءها حكايات مرتبطة بالأنبياء وزوجاتهم كبئر زمزم والصفا والمروة، وعرفات الله ومنى والجمرات، وغيرها مما لا يخفى أمرها على أحد من الناس اليوم.

أما دعوى التعليق بكون المولد لا يصح مكانا لمولد النبي، فيدحظها القول بأنه لا يوجد الآن مكان آخر في العالم يدعي فيه أحد أنه مكان ولادة نبي، الا موقع مولد النبي محمد الموثق في مكة. حتى أن أقرب نبي اليه وهو سيدنا عيسى ابن مريم؛ المعروف فقط اسم مدينة ولادته، وانها وقعت في بيت لحم في فلسطين، لكن أهل الديانة المسيحية لا ولم يستطيعوا تحديد عين مكان ولادته فيها عليه السلام. وهم يحاولون دائما أن يخترعوا تاريخا وتحديدا لموقع مولده عليه السلام فلم يحصلوا قط غير قبض الريح.

بالنسبة لنبينا الخاتم محمد فالتاريخ وعين المكان موجود وثابت قطعا. فهو ولد في هذه المدينة "مكة" وفي هذا الشعب "شعب بني هاشم" وفي هذه الدار دار ابيه عبدالله وجده عبدالمطلب، بل أن بعض المؤرخين قالوا انه ولد في هذه الجزئية من هذا البيت، والله أعلم.

لا ينبغي أن نغفل عن مسألة ان الانبياء يتتابع بعضهم خلف بعض يرسلهم الله الى اممهم لينفذوا أمور الرسالات الربانية، ولأنهم اصحاب شرائع، قلبت أممهم بعض مواقعهم الى شعائر. نحن هنا لا نتكلم عن شعائر في موقع المولد النبوي الشريف، ولا ولن نخترع أمرا جديدا نبتدعه في الدين الخاتم، ولا في حق نبينا الذي قال الله عزّ من قائل على لسانه في محكم التنزيل: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ) المائدة/3وانما نقول ان الثابت تاريخيا ولادة النبي في هذا المكان من مكة. ولا يترتب على معرفة ذلك من عدمه أو زيارته من عدمها أجر لانتفاء النص الشرعي الصريح، الا ربما أجر المحافظة على تاريخ نبينا .

لنعد الى السيرة النبوية العطرة قليلا لنتذاكر معا بعض تفاصيلها في فتح مكة؛ فالنبي لم ينزل في دورها ورباعها بعد عودته لها في يوم الفتح؛ رغم أن جميع قبائل قريش دعته مرارا للنزول عندها أو في داره بمكة وهذا موثق بالنصوص. لكنه اختار أن ينزل في المناخ العام الذي ضرب خيامه عليه ونزل فيه مرارا، وفيه اقوال عدة، منها المحصب، وبيت أم هانئ، وقيل في الشعب، وقيل في الخيف على اختلاف المرويات والاحاديث في كتب السير.

لكننا نختار هنا حديث الصحابي أسامة بن زيد في قوله " ولم يزل مضطربا بالأبطح لم يدخل بيوت مكة". وهذا يستدعي ضرورة تحديد عين المناخ النبوي في بطاح مكة. كونه هو بلا جدال في أهمية مكان مولده الشريف ايضا، وله فضلا ومكانة. فهذا المكان الذي أختار النبي النزول فيه تحديدا عدة مرات واناخ فيه ومعه كل الصحابة، وأديرت فيه أعمال فتح مكة، وجميع الشؤون المدنية الخاصة بأهلها ومن معه خلال الأربعة عشر يوما التي قضاها فيها بعد الفتح، وبعد فراغه من حجة الوداع، وأدار فيه أيضا معركة حنين المعروفة.

في حقيقة الأمر إن موقف المدون هنا هو مطالبته الدائمة بالاهتمام وبحفظ جميع مواقع مكة النبوية، ولا ينبغي حصرها بموقع المولد النبوي فقط، بل يجب أن تتوسع تلك المطالب برفق وحزم كونها أمكنة نبوية شريفة، ومن الضرورة بمكان الحفاظ عليها، كي لا يستحيل تاريخنا النبوي الى اسطورة لا تستند على مواقع معروفة ومذكورة الى اليوم، وهيهات أن تضيع الآن بعد مرور أكثر من 1400 عاما عليها.

صورة تاريخية لمسجد الخيزران (داخل الدائرة) على موقع مكتبة مكة المكرمة الآن

بالعودة الى تاريخ المولد النبوي في العهد الأموي، نجد أن محمد ابن يوسف الثقفي اشترى دار المولد تنفيذا لوصية أخيه الحجاج ابن يوسف الثقفي وبماله أيضا. فلولا أن الحجاج يعرف أهمية المكان وقيمته، لما أوصى أخيه بشراء هذا المكان بالذات دون غيره. ليس ذلك فقط بل إن محمد ابن يوسف أحب أن يكون الموقع ضمن ملكية خاصة لبيته حتى يبعده ويصرف الناس عنه. ولا يخفى على كل ذي لب، أن فكرة الحجاج وأخيه كانت مفرطة في التغوّل، واستخدام الموقع كورقة سياسية ودنيوية في صراع بني هاشم وبني أمية التاريخي. وعلى العموم هي فكرة شائعة الاستخدام في مثل هذه المواقع النبوية واستخدامها حصرا وربما لأغراض سياسية منذ ذلك الوقت.

نفهم هنا أن إدخال ابن يوسف موقع المولد النبوي الى ملكية خاصة به ستُنهي بلا شك اهتمام الناس بالموقع النبوي، وبالتالي سيمنع عليهم الدخول إليه كونه ضمن داره القريب الذي حرص على أن يسميها البيضاء، فلا يحق لأحد ان يطالب بالموقع الشريف بعد ذلك.

بعد عقود جاءت السيدة الخيزران وهي زوجة الخليفة العباسي المهدي، ووالدة الخليفة هارون الرشيد، واخيه الخليفة الهادي في عهد الدولة العباسية، ويشهد لها التاريخ بحروف من نور أنها كانت مولعة بحفظ وإحياء المواقع النبوية في مكة، وتتبع مواقع صلاة النبي كمصلاه المشهور بالقرب من بئر طوى. وكان أول ما قامت به أنها قررت شراء دار ابن يوسف الثقفي من ورثته، وبعد أن دخلت تلك الدار في ملكيتها الشرعيّة، أخرجت موقع المولد النبوي من ملكيتها ليصبح ملكية عامة للمسلمين، ليس ذلك فقط بل جعلته مسجدا لتثبيت خروجه عن ملكيتها وجعله وقفا لله تعالى على مدى الزمان.

علينا هنا أن نتذكر أيضا، أن أهل مكة لطالما اعترضوا في عهد الدولة الأموية على بيع دار الندوة، ودار الأرقم ابن ابي الأرقم، عندما باع أهل ملكيتها تلك الدور لبني أمية، بدعوى عدم قناعتهم بحقهم في بيع جزء أصيل من مفاخر قريش ومجدها التليد، وان كان المشترين لها الخلفاء الأمويين وهم من سادات قريش الذين دفعوا في مقابل الحصول على ملكية تلك الدور أغلى الأثمان، وأضعاف سعرها في وقتها آنذاك. لكن لولا أهميتها السياسية لما سعى في طلبها الحكام من بني أمية، وهذا لا ينفي أن الرعاية لهذه الأماكن من عدمها كانت دوما ذات أشكال مختلفة عند الأسلاف المتقدمين وفي مختلف العصور الإسلامية.

علينا هنا أن نطلق عنان الخيال قليلا؛ لنتصور مثلا ماذا كان سيحدث لو أن النبي طالب بممتلكاته في مكة من قبل هجرته الى المدينة والتي آلت ملكيتها الى ابن عمه عقيل ابن ابي طالب رضي الله عنه؟!. ألم يكن ــ بالمنطق البسيط ــ أنه سيحدث جراء ذلك حربا أهلية في مكة المكرمة لأن جميع المهاجرين كانوا سيقتدون بنبيهم وبالمطالبة بمواقعهم القديمة فيها قبل هجرتهم، والتي استولت عليها قريش أو أقاربهم دون وجه حق. أليس ممكنا حدوث ذلك وبناء عليه تتحول قضية فتح مكة الى مسألة شخصية يتنازع فيها الناس أملاك بعضهم البعض، ويتقاتلون للحصول عليها؟!.

إن من دلائل نبوته، خروجه من المطالبة بحقه في ملكيته الخاصة لبيته وبيت ابيه وجده، حتى لا تتحول القضية برمتها الى تنازع أهلي في تلك اللحظة الحساسة من يوم فتح مكة. لا ننسى هنا أنه كانت هناك عشرات وربما المئات من البيوت المنتزعة ملكيتها فآثر أن يعلم أصحابه أن أجر الهجرة والمهاجرين معه أكبر مما أخذت قريش من دور ورباع من متاع الدنيا الفانية. وفي موقفه يوم توزيع مغانم حنين أكبر العبر في قوله للأنصار بما معناه: "أحزنتم على لعاعة من الدنيا، يعود الناس بالشاة والبعير، وتعودون برسول الله في رحالكم".

مبنى مكتبة مكة المكرمة باللون الأصفر في وسط الصورةـ التقطها المدون في مايو 2014 

في الختام، يجب التأكيد هنا على انه ليس مكان المولد النبوي الشريف مهما فحسب، بل ويجب الحفاظ عليه وعلى بقية مواقعه في مكة النبوية، وفي المدينة المنورة وغيرها. ولنسأل أنفسنا سؤالا بسيطا فقط: هل يوجد أحد بيننا اليوم من لا يحب أن يشاهد موقع شهد مولد النبي وبقية الأمكنة الأخرى القائمة الى اليوم عن تاريخه الذي استمر 53 عاما في مكة كغار ثور، وحراء، وطوى، والحديبية، وغيرها كثير؟!.


قبل الإجابة ــ ونعتذر عن الإطالة ــ نجدد هنا العودة الى بادئ ذي بدء، والتأكيد على تمسكنا بالموعظة والجدال بالتي هي أحسن، والعضّ عليها بالنواجذ. وأنه يجب على كلا فريقا الاختلاف ــ لا الخلاف ــ مقارعة الحجة بالحجة، حتى يظهر الحق وأصحابه. فالقضية تستحق النقاش والاهتمام من الجميع، فهذا تاريخ مشترك يفتخر فيه الجميع ولا يزايد أحد على أحد بالتفرّد بشأنه دونا عن البقية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

شاكر ومقدر مروركم وتعليقكم