الثلاثاء، 24 مارس 2015

الطريق الى فهم الحديبية..! (2 ـ 6 )

صحيفة مكة المكرمة عدد وم الإثنين 23 مارس 2015م


كيف تبدو الحديبية اليوم بعد 1430 عاما؟!

تحفل مدينة مكة المكرمة بست مواقع معروفة شهدت بيعة المؤمنين للنبي محمد صلى الله عليه وسلم. وحتى تُفهم قصة المناخ النبوي، وموقع مسجد (بيعة الرضوان) في الحديبية؛ لابد من مقاربتها بقصة مسجد (بيعة العقبة) في مشعر منى المقدس الذي بناه الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور في العام 144ه ولازال قائما الى اليوم بعد أن وجه الملك عبدالله بن عبدالعزيز (رحمه الله) بإحيائه والعناية به بعد اكتشافه أثناء إنشاء مشروع جسر الجمرات الضخم في العام 2007م ليبقى كأثر اسلامي هام، وموقع من المواقع النبوية المباركة.

وتتعلق الآمال مجددا في أهداف مشروع الملك عبدالله للعناية بالتراث الحضاري ليسجل التاريخ للمملكة وفي أنصع صفحاته مشروع إحياء وتطوير منطقة المناخ النبوي في الحديبية كما هو مقرر فيه، واستخدام مواقعه الشريفة كمركز ثقافي وحضاري تتيح لكل مقيم وزائر، وحاج ومعتمر معرفة تفاصيل أهم أمكنة بدايات الدين الاسلامي في مهبط الوحي لتكون خير وسيلة للدعوة والإرشاد والمعرفة، وبأسلوب عصري مناسب لكل الثقافات واللغات والأجناس بالوسائل الحديثة.

في هذا الجزء من التحقيق نسلط بعض الضوء على هذه المقاربة التي تحفل بها وبتفاصيلها كتب السيرة النبوية وتاريخ مكة المكرمة. مع محاولة لرسم صورة مقربة عن منطقة "الشميسي" كما هي اليوم بعد نحو 1430 عاما من عقد صلح الحديبية الشهير في العام السادس من الهجرة.


صورة من غوغل إيرث تم التحديد فيها بأهم المواقع في منطقة الحديبية.

الطريق الى فهم الحديبية..!

السير في الطرق القديمة يبعث على التذكار وحنين الذكرى لماض ذهب ولن يعود. كلما قطعت ميلا واحدا عبرها عادت بك الذكريات تترى وكأنها فلم قديم كنت في يوم من الأيام سابقا أحد أبطاله وشخوصه الأحياء. إنها طرق تقدم لسالكها دائما بقايا صور حقيقية عن حياة طبيعة كانت تمر برتم بطيء، غارق في قناعة الرضا وروح السّكينة، وصراعها النابذ بضعف ظاهر لا حيلة فيه لكل أيادّ التطوير الخجولة.

طريق جدة ــ مكة القديم هو أحد أهم وأقصر طرق الحج الخمسة المؤدية الى مكة المكرمة، حافلا بالتفاصيل والمحطات التي تجعل من رحلة المسافر ذكرى لا تنسى. وهو ما يفسر إقبال المعتمرين والحجاج بكثافة لهذه المنطقة طوال أيام الموسم، والصلاة في مسجد (الشميسي) القائم حاليا بالرغم من النقص والافتقار لأبسط الخدمات لزائريه.

على امتداد الطريق بين المدينتين (60 كلم تقريبا) تنتشر يمنة ويسرة قرى ومزارع، جبال وصحارى، أسواق ومعامل ومستودعات ومباني حكومية وأهلية. خليط هائل بين الحداثة والأصالة في تنوع لافت يضج بالأمكنة وحياة الناس البسيطة.

كلما اقترب المسافر من حمى مكة المكرمة (عند الكيلو 40 تقريبا) تصافحه نفحات الرحاب المقدسة، وتلوح أمامه مرحبة أحضان وادى الحديبية الفسيح بمناخه النبوي الشهير، تحرسها على رمية حجر علامات وأنصاب حدود الحرم القديمة والحديثة، وبجوارها مباني سبيل الملك المؤسس رحمه الله أحدهما في الحلّ، والآخر في الحرم على بعد نحو خمسة كيلو مترات تقريبا.

وما أن تقترب المركبات من البلدة الآمنة التي حرمها الله حتى تصادف على ميمنة الطريق أحياء سكنية حديثة تتمدد باضطراد غربا وجنوبا، بعدها تلوح أسوار متحف عمارة الحرمين الشريفين ومصنع كسوة الكعبة الشريفة، الى أن تشاهد على يسار السالك مباني مقر رابطة العالم الإسلامي في اقدم أحياء مكة الغربية حيّ أم الجود.

إزالة إحدى التعديات على أراض داخل مخطط حديث في الحديبية. 

شدّ التعدي وجذّب الرقابة!

خلال السنوات القليلة الماضية بدأت سلسلة تغييرات متسارعة، لكنها ليست فقهية هذه المرة. أبطالها رجال مال ومستثمرين في مجال العقارات والمخططات السكنية!. ومما يثير مشاعر الأسى والأسف أيضا أن الصراع الجديد لم يحترم منطقة المناخ النبوي أيضا، لتشهد شدّا وجذباً قائما لليوم بين فئام من الناس تمرسوا التعدي على الأراضي البيضاء، وبين مستثمري المخططات والعقارات التجارية.

ولا تخطئ العين لمن جال في أكناف المنطقة وتفحص تفاصيلها بقايا وشواهد الصراع بين بلدوزرات أمانة العاصمة وبين حوائط وأسوار وعقوم رمال المتعدين، الذين يتسللون غالبا في أيام نهاية الأسبوع للتسابق على وضع أيديهم على اراض بزعم الإحياء بعيدا عن عيون الرقابة الرسمية. ومن يشاهد مسجد الحديبية (الشميسي) القائم حاليا، يجد أنه يضيق ذرعا بمباني شعبية تكاد تلاصق جدرانه الغربية والجنوبية بشكل واضح.

بئر الحديبية داخل أسوار موقع لشركة مقاولات محلية.

حجبّ البئر

بئر الحديبية (التي يعتقد أنها نبوية) ابتلعتها مؤخرا أسوار شركة RCC للمقاولات التي تعمل في إحدى مشاريع جبل عمر الضخمة بجوار الحرم المكي الشريف ليكون مقرا لمستودعاتها الضخمة ومكاتب إدارية ومساكن لموظفيها وعمالتها، بعد فوزها ـ كما يشاع ـ بالحصول على عقد إيجار للموقع الذي لا تقل مساحته عن مليون متر مربع من أمانة العاصمة المقدسة ولمدة عشر سنوات كاملة!.

هذا المتغير الجديد، دفع بنشطاء مبادرة معاد لتعزيز الهوية المكيّة للتنسيق مع الجهات المختصة ومسؤولي أمارة منطقة مكة المكرمة وهيئة السياحة والآثار وأمانة العاصمة المقدسة لتحرير حمى البئر النبوية وتمكين الزوار من المعتمرين والحجاج الوصول إليه لمشاهدته والوقوف عليه. غير أن التغيرات الأخيرة ستشكل صعوبات متوقعة قد تعيق تحقيق هذا التوجه في المستقبل القريب.

وكانت صحيفة مكة قد بادرت بنشر تقرير موسع (الأربعاء 11 نوفمبر 2014م) يكشف عن قيام شركة أهلية بإنشاء مستودعات ضخمة ومكاتب ومنازل خشبية مسبقة الصنع محاطة بسور وباب حديدي حول موقع بئر الحديبية النبوي، ومنع الدخول إليه بشكل كامل. مما أثار الشكوك حول ملكية عين البئر النبوية التي تبعد نحو 280 مترا شرق مبنى مسجد (الشميسي) القائم حاليا على طريق جدة مكة القديم.

نصيحة عابث خطها على سور المقبرة القديمة في الحديبية 

المقبرة القديمة

الجهة الغربية للمسجد الحالي يحدها طريق مكة ــ جدة القديم بعد توسعته مؤخرا ليكون أربع مسارات في كل اتجاه. أما الجهة الغربية الجنوبية فيحده طريق فرعي على رأس قطعة أرض مثلثة الشكل، تأخذ سالكها جنوبا الى مقبرة قديمة تم تحديث أسوارها مؤخرا، على ناصية طريق مرصوف يلتف خلف جبل الحديبية ذي الصخور القاتمة اللون.

لوحظ أن يدّ العبث طالت السور الجديد حول المقبرة القديمة بعد تجديد طلائها. وكان لافتا عبارة تغني عن ألف قول كتبها أحد العابثين، لنصح العابرين بالقرب من المقبرة بقوله: " أيها السفيّه تذّكر هذا المكان" بخط كبير وباللون الأحمر!.

 تركنا السور وكاتبه، ليقودنا الطريق الى مناطق واسعة ومفتوحة بين سلسلة الجبال تنشط فيها صراعات لا تلبث أن تهدأ حتى تعود بين قوى التعديات على الأراضي البيضاء من جهة، ومن جهة أخرى مراقبي أمانة العاصمة المقدسة بمعداتهم الثقيلة لهدم التعديات وتثبيت ملكية أراضي شركة تطوير التابعة لشركة البلد الأمين فيما بات يعرف بأراضي الضاحية الغربية (البوابة) التي تمتد مساحتها في منطقة الشميسي بين مجسم البوابة على الطريق السريع وحتى تخوم منطقة الحديبية حاليا.

مرابظ حافلات نقل الحجاج في الحديبية

مرابض الإبل والحافلات!

خلال الشهر الماضي قامت صحيفة مكة بسلسلة جولات ميدانية متتابعة، أولها جولة خاصة لاستجلاء واقع منطقة الحديبية الواقعة خارج أعلام حدود الحرم بنحو كيلو مترين تقريبا، والتعرف على تفاصيلها الديمغرافية التي لا يشاهدها العابرون سريعا منها كل يوم. وفي العموم يمكن القول أن الحديبية التي تقع بين سلسلة جبال الحديبية جنوبا وجبال أظلم شمالا يخترقها واد وسهول فسيحة تنتشر فيها تجمعات سكنية صغيرة، لا تكاد تبين وسط سهول الوادي الفسيح.

الموقع المؤقت لشركة البلد الأمين الحكومية في الحديبية.

الى الغرب بنحو 3 كلم تقريبا من المسجد القائم حاليا، وعلى ضفاف الطريق الجانبي (المتجه من الشمال الى الجنوب) والموصل الى جسر الشميسي في الطريق السريع حيث تقع نقطة التفتيش الأمنية، تلاحظ لوحات تشير الى موقع مكاتب شركة البلد الأمين، ومرصد البيروني الفلكي، لتنتشر بعدها مرابض الحافلات المخصصة لشركات نقل الحجاج في بياتها السنوي الطويل. ويمكن مشاهدة الآلاف منها وهي مرصوصة بانتظام واضح وبطريقة تبدو وكأنها قطع ملونة ولا نهائية من لعبة الضومنة Domino الشهيرة.

في مقابل مواقف الحافلات تلك، وعلى الضفة الأخرى من الطريق مساحة شاسعة قامت بتطويرها أمانة العاصمة المقدسة لتكون مرابض لتجار ومربي الإبل والمواشي في المنطقة، غير أنها فيما يبدو لم تحوز على رضاهم ولم يرصدّ إلا القليل منها في هذه الأحواش ولسبب غير معروف. وينتهي الطريق بمصنع تعبئة مياه معروفة، ومباني قديمة تحتوي على خزان ضخم للمياه بارتفاع نحو 20 مترا يظهر بوضوح بمنتصف ناصية التقاطع مع طريق جدة مكة القديم الذي تنتشر على جانبي مساره مستودعات ضخمة لشركات منوعة الأنشطة، ومصنع للخرسانة، وورش لصيانة السيارات وغيرها تدار جميعها بأيدي عمالة أجنبية.

أما في مناطق الأحياء السكنية الداخلية جنوب وغرب المسجد تنتشر المزارع والاستراحات وبيوت ومنازل قليلة، منها ما هو مبني حديثا، لكن معظمها بنايات شعبية قديمة. ولا يعرف تحديدا عدد سكانها لكن يمكن تقدير عددهم ببضعة آلاف نسمة فقط من السكان الأصليين والعمالة من غير المواطنين الذين يعملون في انشطة متنوعة.

منازل عشوائية تحيط بمسجد الشميسي القائم حاليا.

هيئة مكة!

خلف جبل الحديبية، من الناحية الجنوبية الغربية، تبدو أعمال نشطة لقص السفوح الصخرية وتهيئة الأرض لمخططات واسعة على امتداد البصر، وهي تابعة لشركة "تطوير" الآنفة الذكر. وتمتاز هذه الأراضي بتعدد مستوياتها منها ما هو على السهول، وبعضها مرتفعة على هضاب جبلية مختلفة الارتفاعات تطل على قطع الأراضي في السهول الواسعة. ولا تزال الأعمال قائمة على قدم وساق لتمهيد وتهيئة مناطق مخططات سكنية أخرى وشق الطرق بينها وتزويدها بالأرصفة وأعمدة الإضاءة.

أما من الناحية الغربية للمسجد الحالية فتبدو شواهد باقية لحالات واسعة من التعدي على قطع أراضي صغيرة المساحات أكثرها مسورة بعقوم من الرمال وأخرى بأسلاك معدنية مخصصة كأحواش لتربية المواشي وخصوصا حظائر الإبل. وكانت هذه الحظائر تقدم لزوار مسجد الحديبية البان الإبل الطازجة قبل أن تمنعهم السلطات الرسمية قبل نحو عامين تقريبا بعد ثبوت علاقة الإبل بتطورات الإصابة بفايروس كورونا القاتل.
ومن اللافت أن منطقة الحديبية تخلوا من أي مركز لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا على غير العادة، فهي جزء أصيل لا يخلوا أي موقع نبوي من محتسبي الهيئة في مكة المكرمة.


خرافات الكدادة!

في موسمي الحج والعمرة كان يكثر إقبال الزوار على مسجد الحديبية الذي يبعد نحو كيلو مترين فقط من أنصاب وعلامات حدود الحرم. فيما كان يستغل بعض المرشدين وسائقي الحافلات والمركبات الصغيرة "الكدادة" جهل بعض الزوار من المعتمرين والحجاج باختراع قصص ومرويات غير حقيقية عن تاريخ منطقة الحديبية طمعا في الحصول على أموالهم مباشرة أو ربما بالتنسيق مع ملاك هذه الحظائر لاقتسام جزء من الأرباح.


وفي السابق كان لا يتورع بعض المرشدين و الكدادة عن نشر روايات خادعة بتأكيدهم أن موقع صلح الحديبية هو عين المكان الذي كان النبي محمد يرعى فيها الغنم قبل بعثته صلى الله عليه وسلم، أو أن ما يشاهدونه من قطعان الإبل هناك هي من بقايا سلالة "القصواء" ناقة النبي صلى الله عليه وسلم، وركائب الصحابة رضوان الله عليهم في صلح الحديبية، وهي مرويات كاذبة في شكل قاطع.



إطار 1


ست مواقع لبيعات النبي في مكة:

مسجد بيعتي العقبة ثابت في منى.. وجدل قائم حول مكان بيعة الرضوان في الحديبية!

مسجد الجن بالقرب من جنة المعلاة في مكة المكرمة.

مسجد بيعة العقبة ( 1 و 2 ) قائم حتى اليوم في مشعر منى المقدس.

تتفق معظم المصادر المشاركة في التحقيق الميداني على ضرورة إحياء جميع المواقع "الباقية" التي شهدت تلقى النبي صلى الله عليه وسلم البيعة من المؤمنين به وبرسالته في مهبط الوحي مكة المكرمة. لا سيما موقعي بيعة العقبة الأولى والثانية، وبيعة الرضوان، لأهميتهما الظاهرة والملهمة في قصة بداية الإسلام، واستخدام مواقعها الشريفة كمراكز ثقافية وحضارية تتيح لكل زائر وحاج ومعتمر معرفة تفاصيل الموقعين اللذان يعدان من بين أهم أمكنة بدايات الدين الاسلامي لتكون خير وسيلة للدعوة والإرشاد والمعرفة، وبأسلوب عصري مناسب لكل الثقافات واللغات والأجناس بالوسائل الحديثة.

وحتى تُفهم قصة موقع مسجد (بيعة الرضوان) في الحديبية، لابد من مقاربتها بقصة مسجد (بيعة العقبة) في مشعر منى المقدس الذي بناه الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور في العام 144 هـ (761م). فالمسجدان تاريخيا أقيما في موقعين أحدهما داخل حدود حرم مكة والآخر في الحِلّ خارجها، حيث أخذ النبي صلى الله عليه وسلم البيعة من المؤمنين به وبرسالته العظيمة، والدفاع عنه وعنها بالنفس والمال والولد. البيعة الأولى والثانية كانتا في عقبة (الأنصار) وهي تلة صخرية تقع في السفح الجنوبي خلف جبل ثبير (النصع) اعظم جبال مشعر منى المقدس، وكان مسرح البيعة الثالثة في مناخ النبي في الحديبية تحت شجرة كان يستضل تحتها صلى الله عليه وسلم.

ولازال موقع مسجد بيعة العقبة ثابتا وقائما في مكانه الى اليوم في مشعر منى دون أي تشكيك في صحة موقعه، أما مسجد بيعة الرضوان في الحديبية فقد صادف تحديد موقعه لغط وجدل كبير ومشهور بين مؤيد ومعارض، لأسباب متعددة، ربما كان من أشهرها الأثر المنسوب الى الخليفة الراشد عمر ابن الخطاب رضي الله عنه عندما قام بقطع شجرة سَلم في الحديبية بعد أن التبس تحديد موقعها على نحو 200 صحابيا من اهل بيعة الرضوان. وهي القصة التي شهدت بدورها خلاف مشهور فيما إذا كان الخليفة الراشد عمر الفاروق قد قام بقطع شجرة الشّك، أم شجرة اليقين.

وعلى كل حال أنتهى الجدل حول موقع بيعة الرضوان الصحيح الى بناء مسجد في الحديبية (القائم حاليا) منذ 40 عاما تقريبا، لتخمد جذوة النقاش بشكل ظاهر بين طرفي الحوار في منتديات العلم والمعرفة المعلنة، غير أنها لا تزال محل أخذ وردّ في بطون الكتب ليسطر فيها كل فريق رؤيته وقناعاته وأدلته، وربما آخرها كتاب "الأماكن المأثورة المتواترة في مكة المكرمة" تأليف معالي عضو هيئة كبار العلماء الشيخ الدكتور عبدالوهاب بن إبراهيم أبو سليمان.

وللتذكير، شهدت مكة المكرمة ست بيعات لنصرة النبي صلى الله عليه وسلم والإيمان برسالته، أشهرها بيعتي العقبة الأولى والثانية في مشعر منى المقدس، وبيعة الرضوان في الحديبية، وبيعتي يوم فتح مكة؛ البيعة الأولى للرجال (في قرن مصقلة بالقرب من شعب عامر وفيه خلاف) وبيعة النساء (في مشعر الصفا)، وبيعة خاصة بعالم الجن (في مسجد الجن القريب من مقابر جنة المعلاة) والذي أنزلت فيه سورة الجن في القرآن الكريم.

واللافت أن أربعة من مواقع البيعات الست لا تزال باقية ومحفوظة داخل مساجد يذكر فيها اسم الله عدا اثنتان؛ بيعة الفتح للرجال في مصقلة، وهو قرن جبلي يرجح أنه كان في شعب عامر بالقرب من الحرم الشريف وقد أزيل أثره في مشاريع توسعة الحرم المكي الشريف. والثاني موقع بيعة الرضوان (محل هذا التحقيق) في الحديبية.

وللاختصار، سيتم تركيز الحديث على مواقع بيعتي العقبة والرضوان، نبدأ بتسلسلها التاريخي؛ أولاهما بيعة العقبة الأولى التي بايع فيها وفدا مكونا من 12 رجلا من قبيلتي الأوس والخزرج قدموا في السنة الحادية عشرة من البعثة النبوية (620م) من المدينة المنورة للحج في مكة (قبل الإسلام) واستمعوا لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم فآمنوا به وبرسالته، ثم عادوا في حج العام الثاني عشر من البعثة النبوية (621م) ليبايعوا النبي صلى الله عليه وسلم في شعب خلف جبل مشعر منى، وهي التي عرفت ببيعة العقبة الأولى.

وكانت بيعة العقبة الثانية في السنة الثالثة عشرة من البعثة النبوية (622م) وقبل أن يؤذن للنبي صلى الله عليه وسلم بالهجرة الى المدينة المنورة بعام واحد تقريبا، عندما أخذ البيعة من 72 رجلا وامرأتان من الأوس والخزرج أيضا، بحضور عم النبي العباس بن عبدالمطلب رضي الله عنه، ونصت المبايعة على أن تحمي القبيلتان النبي صلى الله عليه وسلم كأحد أبنائهم و إخوانهم و لهم في المقابل الجنة. وفي هامش البيعة قدم سادة القبيلتين الدعوة الى النبي محمد لزيارتهم، وأستجاب لهم، وهاجر صلى الله عليه وسلم بعدها بعام (623م) الى المدينة المنورة.

أما البيعة الثالثة فكانت في الحديبية عندما أشتد الحصار على النبي محمد وكان معه (على قول راجح) 1400 رجلا قدموا بملابس الإحرام في السنة السادسة للهجرة (629م) لأداء مناسك العمرة، وحاصرهم خالد ابن الوليد (قبل إسلامه) في سريّة جهزتها قريش قوامها 200 فارسا لقتال النبي وأصحابه. فدعا النبي صلى الله عليه وسلم اصحابه للمبايعة في مكانه تحت ظل شجرة سَلم على نصرته والثبات معه، فبايعوه على ذلك، وفيهم وعنهم نزلت الآية القرآنية في محكم التنزيل: " ۞ لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا" وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم أهل بيعة الرضوان يومها بأنهم "خير أهل الأرض". وتم ذكر أحداث البيعات الثلاثة بتفاصيل وروايات موسعة في كتب السيرة النبوية الشريفة، وتفاسير القرآن الكريم، وتأريخ مكة المكرمة، وكتب المناسك وغيرها.

وبين بيعة العقبة الثانية في مشعر منى قبل الهجرة بعام، وبيعة أهل (الرضوان) نحو سبع سنوات سمان بالأحداث والمتغيرات الجسام، تتراوح بين خوف وضعف وثبات قبل الهجرة، وبين عزّة ومنعة ووعد بالفتح المبين بعدها، وهي تلخص حقيقة انتصار دعوة الإسلام وتمكينه في الأرض في أعظم صورة وأقدس مكان. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

شاكر ومقدر مروركم وتعليقكم