الشاعر عبدالمحسن حليت |
الثلاثاء 5 مايو 2015
طلّ شاعر الحجاز بوجه طليق وعينان غارقتان في حزن عتيق خلف بلّور
نظارته الأنيقة من نافذة الغزل وتباريح الحبّ؛ بعد أن شاب مفرق رأس أصحاب قيسٌ ورفيقات
ليلى، وذوت شعلة الرومانسية في مهج القبيلة، أمام بيارق مدن الإسمنت، مذكرا أن
الحياة فانية بلا موقف، وأن الحبّ وحده لا يموت!.
تساءل دهاقنة الرأي: من بعث الشاعر من خِدر خيمة صمتّه الطويل،
ولماذا قطع ملازمة صومعة حكمة السكوت والصبر الجميل، وكيف ألقى عرجون قمره الثائر
وشُهب أجرام قصائده السياسية الغاضبة في شِباك عسّجد الشّمس، وتنفّس الصّباح،
ومغازلة العاشق للغيّد الملاح؟!.
بعد غياب طال خمس عشرة سنة، فاجأ جمهوره المنتظر مرتين هذا
العام ليلقي مع قصائد غزله وبوحه حجران في مياه الأسئلة؛ مرّة مشاركا 65 شاعرا في ملتقى
الشعراء العرب الثاني في الباحة، وتارة أخرى بلا شريك بعد نحو خمسة أشهر في الطائف.
الحق أن عبدالمحسن بن حليت مسلم بدا متماسكا في اعتداده
وكبريائه في ليلة الباحة القمريّة؛ وطفق يلوّح بيدين عارتين الا من غضبته ليلقي
قفاز تحديه في وجوه رهط الكراهية ليقول بثقة المنتصر:
سأظل عن تلك العيون أقاتل ... أنا عن
هواك وعنك لا أتنازلُ
وسأشعل الدنيا حروبا كلما ... قطعوا
الرسائل بيننا أو حاولوا
عشية دخول شهر نيسان الماضي ضرب الشاعر موعدا يتزامن مع قطاف
ورد الجوري الطائفي الشهير، لتعبق المدينة المعلقة كقنديل فواح على جبال السروات
بالشعر والعطر وآهات قلوب المحبين. ليلتها تفتحت بتلات شعره الغزلي مجددا، معلنا تخليه
عن جلباب السياسة والمواقف الجدلية، واختار أن يوشوش أذن عروس المصائف؛ معتذرا في
سمت العاشقين ـ بعد غياب دام 20 عاما ـ عن طول البعد وهجر الأمسيات الشعرية. وقرر
أن يطوّق جيد حبيبته بعد أن فرغ صبرها بقصائد وابيات منظومة كعقود وردّ ونعناع
المدينة ونوّامها العاطر.
ها قد عاد الشاعر الخمسيني الى صبابته وعنفوانه، وراح يُطرق
أسماع قبيلة محبيه بشيء من تراتيل السحر والحلم والمشاعر الدافئة. كأنه لم يغبّ
قطّ، وكأن سنوات الانتظار كانت مجردّ سبحة كهرمان يحرك خيط خرزاتها بين يديه.
في ختام أمسيته، وكما يفعل دوما في أخر أبيات قصائده، كشف
للحضور سرّه القديم، ووصم قصائد غزله التي لطالما كتبها عشاق الحجاز سرا في دفاتر
حبيباتهم؛ لم تبّتل يوما قطّ في مناديل أنثى ملهمة!.
كأنه أراد أن يفصح لهم شيئا من الكلام غير المباح، وأن
(الفياجرا) كانت موقف شاعر سياسي ولا تمت الى لحظات بوح غزله العفيف. ومن يقرأ لحليت
لا يخطئ رؤية تعمّد الشاعر تغليف شعره بألوان الأحاجي ليغسل قلوب مستمعيه بماء
الدهشة، آملا فهم خبيئة سرّ غيابه الطويل. ألم يقل لجمهور الطائف بوضوح: أنتم
الغاوون ونحن الشعراء؟!.
مجتمع دفّان!
الناقد الأدبي حسين بافقيه تناول تجربة عبدالمحسن حليت الشعرية،
وبالرغم من حرصه على عدم وضع بيض نقده في سلة واحدة، إلا أنه حمّل جزء من المشكلة
للشاعر نفسه بعد ركونه الى غيابه الطويل عن أي نشاط ثقافي في الساحة الأدبية.
وقال: مجتمعنا دفّان، فطواه سريعا بعد نحو ربع قرن من الغياب، بحجة أن البعيد عن
العين بعيد عن القلب.
مذكرا أن في قضايا الإبداع ثمة ما
يسميه الناقد ماثيو أرنولد "اللحظة التاريخية"، وهي تلك اللحظة التي
يستجيب الأديب لها، فيتحقق حضوره فيها، فإذا ما غاب عنها، أو لم يستثمرها
الاستثمار الحسن، فإن تلك اللحظة تفوته وتعبره.
أضاف: لعل شيئًا من ذلك حدث لشاعرنا، حين غاب حيث
ينفع الحضور، وحضر حين ذوت تلك اللحظة التاريخية التي غاب عنها، وكان بإمكان اسمه
آنئذ أن يؤازر القصيدة البيتيّة، لكن غيابه حسر الأضواء عنه، وحين حضر اليوم كان
المشهد الشعري قد اعتاد غيابه وألفه، واستقبل شعراء آخرين رأى فيهم أصواتًا مهمة
للقصيدة البيتيّة، وأهمهم جاسم الصحيح.
في المقابل وفي لقاء خاص أمس باح حليت لـ مكة بسر معادلة غيابه في الحضور ، وحضوره في
الغياب مؤكدا: "أنا لم أقفل فمي، بل كُمّمت وخيطت شفتاي. كنت شاعرا
ممنوعا، ومختفي عن الأنظار بسبب قصيدة، و لا زال ديواني الجديد "خدوش في وجه
حبّ قديم" ينتظر في ادراج وزارة الثقافة منذ 5 سنوات لفسحه حتى الآن.
أضاف: لا تزال عودتي تحفها الاشارات
الحمراء. وحينما يمنع الشاعر وتحبس قصائده عن النشر، فإنه مهما كتب سيظل بعيدا عن
التفاعل مع قراءه. نعم تأثرت كتاباتي بعد منع استمر 14 سنة كاملة. في "غوانتنامو"
هناك من حُبس بعدي، واطلق سراحه قبلي، بينما لا زلت رهين المنع. وللحقيقة لم أكن
نادما أبدا عن الغياب، هذا ثمن دفعته وكنت أعلم مسبقا بأني سأدفعه يوما ما. مقابل
كل قصيدة أكتبها.
صراع
القديم والحداثة!
بتفحص الناقد؛ يطرح بافقيه تأويلاته لأسباب تهميش النقاد لتجربة
شاعرنا. يقول: "جاء في مخاض عصر حركة الحداثة في المملكة، وما رافقها من
انشغال نقاد الأدب العربي آنذاك بتدشين تجربة الشعر الحديث التي تناصب وترفض الشعر
المنبري، ويغضون الطرف عما يغايرها ويباينها، ولديهم مواقف فنية وفكرية كذلك من
شكل القصيدة العمودية، فلم يكن لديهم استعداد الالتفات الى شاعر غير حداثي، ولو
تناول نقاد حركة الحداثة تجربة عبدالمحسن حليت الشعرية (ربما) أساءوا إليها.
فمقاييسهم النقدية لا تنطبق حتى على أمير الشعراء!".
أضاف: "الغريب أن تجربته الشعرية بالرغم من أنها تتجاوز
كثير من شعراء جيله في التجربة والعنفوان، لم تحظ أيضا باهتمام نقاد الشعر
العامودي كما ينبغي ولا أعرف أسبابهم لذاك، على الرغم من أن ديوانه الأول (مقاطع
من الوجدان) كان مطبوعا منذ العام 1403ه، وكان يمكن أن يكون شاعرهم الذي يناضلون
من أجل تجربته المقابلة لحركة الشعر الحديث".
سادن المبادئ والمواقف
وزن حليت في شعراء جيله كجبل أحد يحبهم ويحبونه. وهو في الشعر السياسي
رمحا لا يهادن أو ينكسر، وإذا زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر كان أول من يلبي
نداء المواقف المبدئية ويظهر كحامل مفاتيح سدانتها. وإذا حانت ساعة الحب وفنّ الغزل
فستجد قصائده أرقّ من طوق حمامة.
يؤمن الناقد حسين بافقيه أن اختيار الموقف هو جزء أصيل من قصائد
عبدالمحسن حليت. مشيرا الى أنه "كان شاعرا يعبر عن حال الناس بشكل لا يجسر
الآخرون عن التعبير عنه". لكن في قناعته النقدية أيضا أنه "لا يضرّ
بالشعر الا قضية المواقف. لأن على الشاعر حينها إما أن يكتب شعرا يعلوا على
الموقف، وإما يكتب موقفا يعلو على الشعر. وهذه مشكلة كثير من الشعراء. فلابد وأن
تصل القصيدة الى الفن والجمال، لا الى تغليب الموقف، لتدخل الى ديوان
الانسانية".
حليت
يدافع عن خياراته وقناعاته أيضا، مؤكدا: " أن مهمة الشاعر الأولى هي أن يكون
صوت الناس. وتساءل: ما قيمة الشاعر أن يهتم فقط
بلون شعر او حقيبة يد حبيبته؟!. لا يجب أن تكون القصائد كلها تحت احتلال الهمّ
الخاص، والابتعاد عن الهمّ العام وما يشغل الناس. في وجهة نظري أؤمن أن أي مثقف
يجب أن ينحاز الى الناس، ولا أحد إلا الناس؛ وهذا ما أفعله!".
إنسان قبل الشعر.. وبعده
المقربون من ابن وجيه المدينة المنورة الشيخ الأديب حليت مسلّم
الحربي إمام وخطيب مسجد قباء في حياته، يرونه دوما أكثر من إنسان وأقل من ملاك. ويشهدون
له بأنه نوع بشري خاص لا يجود الزمان كثيرا بمثله. إن ذكرت الصداقة ومعان النبّل
والأخوّة فهو عنوان ماثل يمشي على قدمين.
في محنة صديقه محمد صادق دياب. ترك عبدالمحسن
كلّ شيء خلفه، وأصرّ على أن يرافقه من لحظة إكتشاف مرضه الخبيث وحتى أوسد جسده رحمه
الله تحت لحدّ رطب في مقبرة أمنا حواء.
كان أول من نسج لصديقه قصيدة رثاء قبل عشرون يوما من لحظة
الحقيقة. رثى من لوعته فيها نفسه قبل فقد الصديق. توسّل إليه شعرا بلا جواب:
"لا تغادر، أرجوك .. أنت الشباب
لم يحن بعد يا صديقي الغياب
أنت حيّ فوق التراب معافى
وأنا من عليه يُحثى التراب!".
بعدها؛ ودّع رفيق دربه (أبا غنوة) قريبا من مسقط رأسه في بيوت
جدة القديمة، وأشجار النيّم الثلاثة التي أستودع الراحل جذوعها وأوراق اغصانها
شجواه ونجواه، لتحرسه حمائم الرحمة لتؤنس وحدته بصوت هديلها الذي كان يحب.
يصف بافقيه الموقف بأنه من اعظم المواقف النبيلة التي لا يمكن
أن ينساها أحد، وينبغي أن نزداد تأملا فيها. هذا هو الخلق وهذه هي الشخصية الحقيقية
للإنسان والشاعر عبدالمحسن حليت.
الصحافي أم الشاعر؟
يشهد حسين بافقيه أن "تجربة عبدالمحسن حليت الصحافية مشهود
لها وله بالكفاءة والتميّز، ويعتبره صحافيا نموذجيا. "كان يحرر ويترجم ويخرج
وينفذ بنفسه. وهذه مفاهيم متقدمة في العمل الصحافي لا يجيدها الا قلة".
منذ سنوات غسل الصحافي عبدالمحسن حليت خريج الإدارة العامة في
إحدى جامعات الولايات الأمريكية أردانه من حبّر الصحافة وألوان أيامها الرتيبة.
وللمفارقة، كان حظه أن يكون صحافيا يكتب باللغة الإنجليزية، وشاعرا لا يرى بدلا عن
لغة الضّاد العربية. بعد صراع بين المهنة والهواية، قرر أن ينتصر لغواية الشعر
مكتفيا بشكل عاموده الواحد وبحاره السبعة.
لم يخفِ يوما ضيقه القديم بأثواب صاحبة الجلالة وزيف صفحاتها وأعمدتها
الثمانية. كان يرى ـ ولا زال ـ أن تلك الأعمدة محض قضبان من حديد وجدت هنا لتحرس بلا
كرامة فضاء واسعا من الحريّة بلا مبرر. يقول: قصيدتي
في رثاء أبا غنوة نشرت على استحياء وبعد وساطات محبين، وبعد حذف ابيات منها في ركن
صغير على شارع فرعي في صحراء كالنفوذ، حيث لا يوجد أي كائن حيّ يقرأها هناك!.
يرمي حليت الكرة في ملعب الصحافة متهما إياها باتخاذ
موقف مضاد منه كشاعر. يقول: "إن رؤساء التحرير سواء رضيت عني بنو تميم أو لم
ترضى، لديهم موقف من قصائدي، ويتحرزون من نشرها، ويفتشون بين السطور عن ما قد
تعنيه أبياتها ثم يحاكموها بناء على قراءاتهم وإسقاطاتهم عليها.
يختم
موضحا:" لا اعتقد انني سأعود الى شارع الصحافة تارة أخرى. لقد عرض علي مؤخرا
رئاسة تحرير صحيفتين ورفضت ذلك. نفسيا لست متهيئا لهذه المهمة، وجميعنا يشهد ويشاهد
وضع صحافتنا الآن".
إطار ( 1
)
ولد
الشاعر عبدالمحسن حليت في العام 1958م في المدينة المنورة. أصدر ديوانه الأول
(مقاطع من الوجدان) في عام 1403ه. وبعد ثلاث سنوات أصدر ديوانه الثاني (إليه..) في
العام 1406ه قبل أن يعود الى سحبه من الأسواق بطلب من والده رحمه الله بعد ان نشر
فيه قصيدة طالت الرئيس المصري السابق محمد أنور السادات بعد وفاته. يقول: وقال لي
أبي لقد أفضى السادات الى ربه، فسحبت الديوان ولو طلب مني أن أحرقه لفعلت".