تظهر الصورة تغييرا في خط وكتابة آيات إحدى قباب المسجد النبوي |
المدينة
المنورة: عمر المضواحي
أثارت ورش
صيانة تطال حاليا الأعمال الفنية الضخمة لأسقف وقباب المبنى التاريخي للمسجد
النبوي الشريف جدلا واسعا هذه الأيام بين أهالي المدينة المنورة وزوارها خوفا من
إحداث تغييرات جذرية تمس التراث الفني التاريخي لهذه الأعمال والتي تشمل صورا
طبيعية ونقوش زخرفية وكتابات قرآنية وشعرية بالخط العربي صمدت منذ نحو 166 عاما
مضت وحتى الآن.
ووقفت
صحيفة مكة في ساعة متأخرة من مساء الاثنين الماضي (2 مارس 2015) على جانب من هذه الورشة التي
تنشط في صيانة قباب وأسقف الجزء القبلي (الجنوبي) بالقرب من اتجاه باب السلام وسط
حضور كثيف من الزوار الذين قدموا للصلاة في الروضة الشريفة والسلام على النبي صلى
الله عليه وسلم وصاحبيه في الواجهة الشريفة.
أحد الفنيين يصعد بالرافعة الآلية لمباشرة مهام عمله. |
وبالمشاهدة
لوحظ أن معظم النقوش والزخارف الفنية الجميلة في الأسقف بدت أكثر بهاء وظهورا بعد
أعمال الصيانة والتنظيف. غير أن جزءً في جوف إحدى القباب القريبة من موقع المحراب
في الجدار القبلي بدا مطليا باللون الأزرق الغامق في انتظار إكمال خط الآيات
القرآنية بخط الثلث المتشابك داخلها بالون الأبيض. الأمر الذي يعكس شعورا قوياً أن
أعمال الصيانة ربما شملت تغييرا لنوع الخط والكتابات داخلها من دون مسّ النقوش
والزخارف حولها.
أحد الفنيين يقوم بارتداء كمامات قبيل مباشرة مهامه بصيانة سقف وقباب المسحد النبوي بالقرب من المحراب. |
في الوقت
الذي بدأ عددا من الفنيين (وجميعهم غير سعوديين) عند الساعة الثانية عشرة من منتصف
الليل بنصب رافعات آلية وهم يرتدون كمامات وقفازات لاستكمال عمليات صيانة وتهيئة
مسطحات السقف بمواد كيميائية ذات رائحة نافذة لتلميع وتنظيف الزخارف النباتية
والنقوش الهندسية في سقف وحواف القباب التي بدت آية في الجمال والإتقان.
البناء السلطان عبدالمجيد للمسجد النبوي أجمل العمارات في العهد العثماني |
وتعود هذه
الأعمال الفنية الضخمة الى عمارة السلطان العثماني عبدالمجيد الأول العام 1849م التي
غطت سقف المسجد كاملا بالقباب المكسوة بألواح الرصاص، ويبلغ عددها 170 قبة أعلاها
القبة الخضراء، ثم قبة المحراب العثماني، ثم قبة باب السلام، وباقي القباب على
ارتفاع متقارب. ولبعضها نوافذ مغطاة بالزجاج الملون، كما كتبت في جدار المسجد
القبلي (الجنوبي) سور من القرآن الكريم واسماء النبي محمد بخط الثلث العربي وذهبت
الحروف بالذهب، كما بنيت أبوابه بشكل فني بديع.
وأستمر العمل بالتوسعة المجيدية زهاء 13 عاما
كاملة بلغت مساحتها الإجمالية عند الانتهاء منها العام 1860م نحو 1293 مترا مربعا
وتعد من أضخم وأتقن وأجمل العمارات والتوسعات التي تمت في العهد العثماني للمسجد
النبوي الشريف، وقد بقي منها بعد
العمارة السعودية الحديثة الجزء القبلي (الجنوبي)، ويبدو هذا الجزء قوياً متماسكاً
حتى الآن.
خطوط على الجدار القبلي للمسجد النبوي بخط عبدالله بك زهدي |
وكانت
المخاوف من إحداث تغييرات جذرية تمس أصل هذه الأعمال الفنية التاريخية التي نفذها
الخطاط العثماني عبدالله زهدي انتشرت عبر وسائط التواصل الاجتماعي الأسبوع الماضي
وطالبت من الجهات المعنية توضيح حقيقة ما يحدث في ورشة الصيانة وإعلانه للرأي
العام.
إعادة خط إحدى القباب وبقي جزء لم ينتهي العمل به. |
وتواترت آراء
مصادر مختلفة التقتهم صحيفة مكة في المدينة المنورة حول طبيعة عمل هذه الورشة مؤكدة
حدوث بعض التغييرات الجذرية ليس في كتابات بعض القباب فقط بل شملت أيضا حوائط
المبنى القديم وجدار القبلة المجيدي المغطى بالكامل بأعمال فنية تعد ثروة جمالية
عالية من الزخارف الإسلامية والخطوط العربية التاريخية لآيات من القرآن الكريم
وأسماء الله الحسنى وأسماء النبي محمد وأبيات شعرية من عيون قصائد المدائح النبوية
عبر التاريخ.
وأكد
أكثر من مصدر أنه تم خلال السنوات القليلة الماضية تغيير جميع أبيات قصيدة البردة
أشهر قصيدة مدح نبوي كتبها محمد بن سعيد البوصيري (في القرن السابع الهجري) وطمسها
من الجدار القبلي، وأنه استمرارا لمحاولات التغيير التي تتم منذ سنوات وشملت أجزاء
من الكتابات التي كانت منقوشة في الشبك النحاسي المذهب في واجهة الحجرة النبوية
الشريفة بحجة اشتمالها على غلو وتجاوز منهي عنه في أصول الدين الإسلامي.
وفي
الوقت الذي طالبت فيه مصادر أخرى بضرورة تحكيم العقل والأناة والتحري عن حقيقة ما
يحدث بالفعل، وما إذا كان العمل هو إعادة ترميم وتجديد للنقوش وألوان الزخارف
والكتابات الموجودة في القباب التاريخية لصيانتها والمحافظة عليها، أم هو تغيير
متعمد في بعض كتاباتها. وشددوا جميعا على ضرورة بيان أسباب هذا العمل ودوافعه،
وتوضيح ما سيؤول إليه حالها بعد الانتهاء من هذه الأعمال، وما إذا كان في الصالح
العام أو عدمه.
وقال
مصدر ـ رفض الكشف عن هويته ـ الى أن عددا من المهتمين والخبراء من أهالي المدينة
المنورة يراقبون أعمال ورشة الصيانة ويتابعون خطواتها بدقة كونها تحتاج الى دراسة
وتأكد قبل اتخاذ أي خطوة حيالها لاطلاع كبار المسؤولين بشأنها. مشيرا أن عددا من
المتخصصين في علوم الهندسة والعمارة والآثار والتراث الفني يعملون الآن على توثيق سير
الأعمال القائمة حاليا في صيانة أعمال أسقف وقباب المسجد النبوي بعد أن تأكد لهم
أن هناك تغييرات غير معلنة حصلت في بعض نصوص الكتابات والخطوط المستخدمة في قباب
المسجد النبوي، لرفعه لأمير منطقة المدينة المنورة الأمير فيصل بن سلمان بن
عبدالعزيز لاطلاعه على حقيقة الموقف واتخاذ ما يراه مناسبا حيال هذا الموضوع الذي
يشمل تغييرات تحت مسمى ترميم وصيانة لها.
جدول يوضح الكتابات الموجودة في قباب وحوائط وأسقف الحرم النبوي
من كتاب المسجد النبوي الشريف في العهد العثماني (923 ـ 1344هج)
دراسة معمارية حضارية للدكتور محمد هزاع الشهري
|
وقال
مصدر آخر لصحيفة مكة: أن هناك العديد من الدراسات المتخصصة تحدثت وبتوسع عن
الزخارف والنقوش والخطوط الإسلامية في عمارة المسجد النبوي الشريف وأن عدم الإعلان
عن التغييرات في هذه الثروة الإسلامية يعتبر إجهاض لكل تلك الدراسات المهنية
القيمة التي تحتفظ بها المكتبة الإسلامية خاصة المتعلقة بتاريخ عمارة المسجد النبوي
الشريف.
وأعاد
المصدر للذاكرة قيام شركة دلة والتي كانت تتولى تنفيذ وتشغيل أعمال الصيانة للمسجد
النبوي في العام 1991م بمسابقة لاختيار خطاط لترميم الكتابات القرآنية في الحرم
النبوي والتي تعود الى العصر العثماني بعد أن بهتت بفعل الزمن، فوقع الاختيار
حينها على الخطاط الباكستاني الماهر شفيق الزمان ولي محمد خان وهو باكستاني
الجنسية مقيم منذ عقود في المملكة العربية السعودية.
الخطاط شفيق الزمان ولي محمد خان ـ إنترنت |
مشيرا
الى أن الخطاط شفيق الزمان حاز على جوائز عدة محلية وعربية وإسلامية في الخط
العربي، وأسند إليه مهمة القيام بإعادة ترميم للكتابات الأثرية التي نفذت بيد الخطاط العثماني الشهير عبدالله بك زهدي (1836 ـ 1879م) والذي
عرف بخطاط المسجد النبوي بعد أن نفذ خطوط جدرانه كما قام أيضا بخط كسوة الكعبة
المشرفة.
وكانت
المهمة المطلوبة من الخطاط شفيق الزمان (58 عاما) بحسب تصريحات إعلامية سابقة له أكد
فيها لصحيفة الشرق الأوسط بتاريخ (30 يونيو 2014م) بقوله «بدأت العمل في المسجد النبوي منذ 23 سنة، منذ عام 1991 حين أعلنت شركة دلة
عن مسابقة لاختيار رئيس للخطاطين. كانوا يبحثون عن فنان يستطيع ترميم الكتابات
الموجودة على جدران الحرم وقبابه، وخاصة في الجانب الذي بني في العهد العثماني،
والتي بهتت بفعل الزمن، وكانت من عمل الخطاط عبد الله زهدي وهو من أكبر الأسماء في
تاريخ فن الخط العربي».
وأشار
الى أن الرئاسة العامة
لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي أوكلت له مهمة ترميم
الكتابات الموجودة في مبنى
الحرم النبوي القديم، كما كتب لوحات جديدة بأسماء أبواب (السلام، أبو بكر الصديق، الرحمة، البقيع، جبريل، النساء). وقام
أيضاً بكتابة أسماء أبواب التوسعة السعودية الثانية كلها، وكذلك أسماء الإدارات
والمكاتب في الحرم النبوي الشريف وغيرها.
وبحسب
موقع شبكة المبدعين للخط العربي إشارة الى أن الخطاط شفيق الزمان "هو الآن
بصدد كتابة الآيات القرآنية في القباب بالرسم العثماني (رسم المصحف) بعدما كانت
مكتوبة بالرسم الإملائي، وقد انتهى من ستين قبة، وبقي له حوالي تسعين قبة".
وقد أقرّ
الخطاط شفيق الزمان في حديث سابق لصحيفة أوردو نيوز إلى "أن هناك 177 قبة من العهد
العثماني في المسجد النبوي وكل قبة بقطر 11 مترا كتبت على حوافها آيات قرآنية باستخدام
قلم يبلغ سمك ريشته 18 مليمترا. وأوضح أن هناك فرقا كبيرا بين الطريقة الحديثة لخط
آيات القرآن على القباب والطريقة التي كانت متبعة في العهد العثماني". مشيرا الى
أن "الطريقة الحديثة للكتابة في كل قبة تعتمد على كتابة الآية بأكملها لتبدأ آية
مختلفة في القبة التي تليها، ولكن ذلك لم يكن متبعا في القباب التي نفذت في العهد العثماني،
حيث كانت الآيات تنقسم أحيانا بين أكثر من قبة. وهو الآن بصدد كتابة الآيات القرآنية
في القباب بالرسم العثماني (رسم المصحف) بعدما كانت مكتوبة بالرسم الإملائي".
بعض التغييرات السابقة التي طالت واجهة الحجرة النبوية الشريفة. |
وأعتبر
المصدر أن حديث الخطاط شفيق الزمان يعد إقرارا صريحا منه بأن هناك تغييرا في نوع
الخط وكتابة الآيات وهو تغيير جذري لما وجد من تراث فني إسلامي سابق ضل صامدا
لقرون لأحد أكبر الأسماء في تاريخ فن الخط العربي، ما يجعل أعماله تاريخ فني قائم
بحد ذاته في عمارة المسجد النبوي الشريف.
وتساءل
المصدر: هل تطمس أعمال مثل الخطاط زهدي بك وهو قامة تاريخية لا يمكن إغفالها، لتستبدل
عبر خطاط آخر بدلا من صيانتها وترميمها للحفاظ على بهائها وقيمتها الفنية العالية
عبر الأجيال؟.
ومضى
المصدر يتساءل بقوله: "هل ستطال أعمال الخطاط شفيق الزمان أيضا تغيير جميع
أعمال خطاط المسجد النبوي والنقوش والكتابات الإسلامية في جدار القبلة والمنتشرة في
أنحاء الجزء العثماني من مبنى الحرم.
أضاف: إن هناك تساؤلات جدية عن مستقبل أعمال ورشة
الصيانة هذه وما إذا كانت ستطال أيضا الخطوط والنقوش الموجودة داخل الحجرة النبوية.
مشددا أن ذلك أمرا لا يقبل الكثير من الغيورين المساس بها كونها تراث فني وتاريخي
يجب الحفاظ عليه وعدم تغييره.
د. السديس والفالح يكرمان الخطاط شفيق الزمان ولي محمد خان |
وكان المركز الإعلامي
للرئاسة اشار في خبر له بتاريخ (1 / 3 / 1436هـ) عن قيام الشيخ د. عبدالرحمن بن
عبدالعزيز السديس الرئيس العام لشؤون
المسجد الحرام والمسجد النبوي بمكتبه بالمدينة المنورة بحضور الشيخ عبدالعزيز بن
عبدالله الفالح نائب الرئيس العام لشؤون المسجد النبوي بتكريم خطاط
المسجد النبوي شفيق الزمان ولي محمد خان نظراً لجهوده وإجادته لأداء الخط
العربي في المسجد النبوي الشريف بمناسبة الاحتفاء العالمي باللغة العربية تحت
شعار الحرف العربي مطلع العام الهجري الجاري.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
شاكر ومقدر مروركم وتعليقكم